خطاب عباس في الأمم المتحدة: ذروة الانحدار السياسي وتفريط شامل بالقضية

أثار خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أمام المؤتمر الدولي رفيع المستوى للتسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين في نيويورك والتي تم منعه من دخولها بقرار أمريكي، موجة غضب واسعة في الشارع الفلسطيني والعربي.
فقد جاء الخطاب أشبه باعتراف علني بـ”خيانة تاريخية” لمبادئ النضال الوطني، حيث قدّم عباس نفسه باعتباره شريكًا في أجندة الاحتلال وحليفه الدولي بدل أن يكون صوتًا لشعب محاصر ومجزّر في غزة والضفة.
الخطاب مثّل – في نظر كثير من المراقبين – نقطة الانحدار القصوى في مسيرة قيادة فقدت أي شرعية شعبية، وتحوّلت من إطار نضالي إلى أداة في خدمة الضغوط الأميركية والإسرائيلية.
محمود عباس ويكيبيديا
من أخطر ما جاء في الخطاب إدانة عباس الصريحة لـ”هجمات السابع من أكتوبر”، في إشارة إلى هجوم طوفان الأقصى، ووصفه لعمليات المقاومة الفلسطينية بأنها “إرهاب” طال مدنيين إسرائيليين.
ويبرز هنا أن هذه التصريحات لم تأتِ في سياق ضغط دولي عابر، بل في منبر أممي أمام العالم بأسره، لتُترجم على أنها تبنٍّ رسمي للرواية الإسرائيلية التي تساوي بين المحتل والمحتلّ.
بهذا الموقف، أعطى عباس غطاءً سياسيًا إضافيًا لإسرائيل لتبرير حربها على غزة، بل فتح الباب أمام تل أبيب لتسويق فكرة أن حتى “القيادة الفلسطينية الشرعية” تدين حماس والمقاومة وذلك في إدانة ليست فقط لحركة بعينها، بل لكل مشروع مقاوم، وهو ما اعتبره مراقبون طعنة في ظهر الشعب الفلسطيني الذي يواجه الإبادة.
شكر واشنطن: مجاملة على أنقاض الدم
لم يتوقف عباس عند حد الإدانة، بل ذهب أبعد عندما وجّه الشكر للولايات المتحدة على “وساطتها لإنهاء الحرب”. هذا المديح بدا فاقعًا في لحظة تشهد فيها واشنطن بأنها الداعم الأول عسكريًا وسياسيًا لإسرائيل في حرب الإبادة على غزة.
شكر عباس بدا كأنه تبرئة ذمة لواشنطن من الجرائم، رغم أن الطائرات والقنابل التي تقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين تحمل ختم مصانع أميركية.
وقد كان من المفترض أن يرفع عباس الصوت ضد الانحياز الأميركي، فإذا به يقدّم كلمات عرفان، في مشهد اعتبره كثيرون سقوطًا أخلاقيًا لا يُغتفر.
التخلي عن الأسرى والشهداء وتجريم المقاومة
من بين ما صدم الفلسطينيين إعلان عباس التزامه بعدم دفع رواتب لأسر الشهداء والأسرى. هذا البند الذي طالما تمسكت به السلطة كعنوان للوفاء لضحايا الاحتلال تحوّل فجأة إلى ورقة مساومة، استجابة للضغوط الأميركية والإسرائيلية.
بهذا الموقف، سلّم عباس رمزية النضال الفلسطيني بالكامل، وضرب بعرض الحائط بُعدًا إنسانيًا ونضاليًا ظل لعقود يمثل خطًا أحمر. لم يعد الأسرى والشهداء سوى عبء مالي وسياسي في نظر السلطة، وهذا بحد ذاته إعلان سقوط المنظومة الأخلاقية.
في الوقت ذاته طالب عباس في خطابه بنزع سلاح المقاومة فورًا، في انسجام شبه كامل مع المطالب الإسرائيلية والأميركية.
والمفارقة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه – المعروف بمواقفه الداعمة لإسرائيل – ربط نزع السلاح بقيام دولة فلسطينية أولاً. أما عباس فسبق الجميع وطالب بتجريد غزة والضفة من أي قوة ردع قبل أي حديث عن دولة.
وبحسب مراقبين يعبّر هذا الموقف عن رضوخ كامل للإملاءات الأمنية الإسرائيلية، ويكشف أن السلطة ترى في المقاومة تهديدًا أكبر من الاحتلال نفسه.
الاعتراف بحق دولة الاحتلال في الوجود
جدّد عباس التزامه بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، في وقتٍ تشن فيه تل أبيب حربًا مفتوحة لإلغاء وجود الشعب الفلسطيني نفسه. وبينما يتمادى قادة الاحتلال في الحديث عن “غزة بلا فلسطينيين” و”أرض بلا سكان”، يأتي عباس ليؤكد أمام العالم التزامه بالاعتراف والشرعية لإسرائيل.
بهذا يكون قد جدد شرعية دولة الاستيطان والإبادة، بينما سكت عن حقوق شعبه المنتهكة.
وفي خطوة وُصفت بأنها استفزازية ومذلة، هنّأ عباس اليهود حول العالم بمناسبة السنة العبرية الجديدة. لم يكن الاعتراض على التهنئة بذاتها – فهي قد تُفهم في سياق المجاملة الدبلوماسية – بل على توقيتها: وسط حرب إبادة على غزة، وآلاف العائلات الفلسطينية تحت الركام.
وقد تحولت هذه التهنئة إلى رمز للانفصال التام بين قيادة السلطة وشعبها، وكأنها محاولة لإرضاء اللوبيات الدولية على حساب آلام الفلسطينيين.
إفلاس سياسي وانتحار أخلاقي
يظهر من تحليل الخطاب أن عباس: تبنى الرواية الإسرائيلية بالكامل في توصيف المقاومة وأعفى واشنطن من مسؤولياتها المباشرة عن جرائم الحرب وتخلى عن رمزية الأسرى والشهداء، وهي أحد أهم ركائز النضال الفلسطيني.
في الوقت ذاته طالب عباس بتجريد الفلسطينيين من سلاحهم قبل أي حل سياسي وجدّد الاعتراف بإسرائيل في ذروة ما تمارسه من إبادة بحق الفلسطينيين، فضلا عن أنه قدّم رمزية التهنئة الدينية كرسالة تطبيع معنوي مع المشروع الصهيوني.
النتيجة: خطاب مثّل ذروة الانحدار السياسي والانتحار الأخلاقي لقيادة فقدت علاقتها بشعبها.
وعليه فإن خطاب عباس في الأمم المتحدة لن يُسجّل كوثيقة سياسية عابرة، بل كـ”شهادة إدانة تاريخية” لمرحلة كاملة من التفريط والتفكك. لقد عرض رئيس السلطة كل تنازلاته في العلن، وأكد ما كان يقال همسًا: أن السلطة تحولت إلى أداة بيد الاحتلال وحلفائه.
لكن في المقابل، أظهر الشارع الفلسطيني – عبر صموده وتضحياته – أن القضية لم تعد مرهونة بقيادة هرِمة. وإذا كان خطاب عباس يمثل آخر أوراق الانحناء، فإن دماء غزة وصمود المقاومة هما ما يكتب التاريخ الفعلي للقضية الفلسطينية.