عباس يمتنع عن توجيه كلمة لغزة بعد وقف الحرب ويفضل مخاطبة الإسرائيليين

امتنع رئيس السلطة محمود عباس عن توجيه أي كلمة لغزة المكلومة بعد وقف حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي استمرت لعامين، مفضلاً مخاطبة الإسرائيليين، سواء عبر استقبال وفد من “تحالف السلام الفلسطيني الإسرائيلي” في رام الله، أو من خلال مقابلة تلفزيونية مع القناة الإسرائيلية 12، في خطوة أثارت غضبًا واسعًا في الشارع الفلسطيني واعتُبرت “دليل انفصال كامل عن معاناة الشعب في غزة”.
فقد استقبل عباس يوم الخميس، في مقر الرئاسة بمدينة رام الله، وفدًا من تحالف السلام الفلسطيني الإسرائيلي، بعد ساعات على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة.
وفي مستهل اللقاء، رحّب عباس بالاتفاق الأميركي الإسرائيلي، معربًا عن “تقديره الكبير للجهود التي بذلها الرئيس ترامب وجميع الوسطاء من مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة”، مشيدًا بما وصفه بـ”الخطوة التاريخية نحو تحقيق السلام العادل”.
وركّز عباس في حديثه أمام الوفد الإسرائيلي على ضرورة التزام جميع الأطراف بتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، قائلاً إن “تحقيق الأمن والسلام الدائم والعادل يتطلب التدرج في تطبيق الاتفاق حتى تقام دولة فلسطين إلى جانب (إسرائيل) وفق قرارات الشرعية الدولية”.
تجاهل غزة والتركيز على “السلام مع إسرائيل”
لكن المثير للجدل أن عباس لم يتطرق في كلمته أو تصريحاته إلى غزة المنكوبة، ولم يقدم أي تعزية لعشرات الآلاف من الشهداء أو دعم للناجين الذين يعانون أوضاعًا كارثية بعد عامين من الحرب.
وبدلاً من ذلك، اختار أن يبعث برسائل تطمين للإسرائيليين، مؤكدًا أن الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية “ليس ضد (إسرائيل)”، بل خطوة “في سبيل العدالة والسلام الدائم”.
وقال عباس أمام الوفد الإسرائيلي إن “الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو تجسيد لمبدأ المساواة بين الشعوب، فكما من حق الإسرائيليين أن تكون لهم دولة، من حق الفلسطينيين أن تكون لهم دولتهم”.
وأضاف أن “الاعتراف الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية سيقود إلى إنهاء الصراع وتحقيق سلام شامل”.
مقابلة عباس مع القناة 12 العبرية
بعد اللقاء أجرى عباس مقابلة مطوّلة مع القناة الإسرائيلية الثانية عشرة، هي الأولى له منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، قدّم خلالها رسائل مباشرة للرأي العام الإسرائيلي بدلًا من مخاطبة شعبه في غزة.
وقال عباس في المقابلة: “بدأنا بالإصلاحات التي تعهدنا بها للولايات المتحدة، بما في ذلك وقف رواتب عوائل الأسرى والشهداء”، مضيفًا أن الاتفاق الذي رعاه ترامب يمثل “لحظة تاريخية” يجب “استثمارها لمواصلة طريق السلام”.
وتابع “نأمل أن يسود السلام بيننا وبين (إسرائيل)، وأن نتمكن من تنفيذ جميع الإصلاحات المرتبطة بالتعليم والاقتصاد والأمن”.
وأوضح أن حكومته وضعت خطة شاملة، تشمل قطاعات عدة، من بينها ملف رواتب الأسرى، الذي قال إنه تم التوصل بشأنه إلى تفاهمات بالتنسيق مع واشنطن.
وأشار إلى أن بقية عناصر الإصلاح، بما فيها التعليم، والمالية، والصحة، والأمن، هي قيد التطبيق، مؤكدا أن “بعضها نُفّذ بالفعل، فيما يتطلب البعض الآخر مواصلة العمل عليه، حتى تصبح السلطة الفلسطينية، سلطة يضرب بها الأمثال وسلطة قادرة على أن تستمر بقيادة الشعب الفلسطيني”.
وقد أثارت هذه التصريحات – التي تضمنت تعهداً صريحاً بوقف رواتب الأسرى والشهداء – استياءً عارمًا في الشارع الفلسطيني، إذ اعتبرها مراقبون “انصياعًا كاملًا للإملاءات الأميركية والإسرائيلية”، في وقتٍ ما زالت فيه غزة تلعق جراحها وتحصي شهداءها.
في المقابل، لم يُدلِ عباس بأي كلمة موجهة لأهالي القطاع، لا عبر الإعلام الفلسطيني الرسمي ولا عبر بيان صادر عن الرئاسة، رغم مرور أيام على وقف الحرب التي خلّفت أكثر من 67 ألف شهيد و170 ألف جريح، إضافة إلى دمار شبه كامل في البنية التحتية.
ورأى محللون أن امتناع الرئيس عن مخاطبة غزة “يعكس عزلة سياسية وشعبية غير مسبوقة”، وأنه يسعى إلى تثبيت صورته كشريك موثوق للإسرائيليين والولايات المتحدة، وليس كزعيم وطني لشعب محاصر.
وأبرز مراقبون أن عباس “يتحدث عن السلام بينما يعيش مليونان من الفلسطينيين في دمار شامل بلا كهرباء ولا ماء ولا مأوى، فيما إجراء مقابلة مع قناة إسرائيلية بينما غزة تنزف هو رسالة قاسية، تؤكد انفصال القيادة عن واقعها”.
استمرار النهج الأمني
ويأتي حديث عباس عن “الإصلاحات” بعد تأكيدات من مسؤولين في السلطة الفلسطينية بأن رام الله بدأت فعليًا بتنفيذ اشتراطات أميركية مرتبطة باستئناف الدعم المالي، تشمل تعديل المناهج التعليمية وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتجميد صرف رواتب الأسرى، وهو ما يراه منتقدون “تنازلًا عن الثوابت الوطنية تحت غطاء الإصلاح”.
وتشير تسريبات من داخل أروقة المقاطعة إلى أن الرئيس عباس يرى في خطة ترامب للسلام فرصة لإعادة السلطة إلى غزة عبر “الترتيبات الدولية الجديدة”، ما يفسر تركيزه على كسب رضا الجانب الإسرائيلي والأميركي.
وفي غزة، قوبل تجاهل عباس بسخط شعبي واسع. فقد عبّر ناشطون عبر مواقع التواصل عن استيائهم من “صمت القيادة تجاه المجازر”، متسائلين عن سبب امتناع الرئيس عن تقديم كلمة دعم لأهالي القطاع أو زيارة ذوي الشهداء. وكتب أحد النشطاء: “عباس لا يرى في غزة إلا عبئًا سياسيًا، بينما العالم كله يراها رمزًا للصمود”.
وفي الضفة الغربية، عبّر سياسيون عن قلقهم من اتجاه القيادة نحو مزيد من الارتهان السياسي، محذرين من أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى فقدان ما تبقى من شرعية السلطة وأن السلطة في رام الله تنظر إلى غزة لا كشعب جريح بحاجة للاحتضان، بل كملفّ سياسي يُدار من مسافة باردة وبعيون إسرائيلية.