تحليلات واراء

التزام عباس بالاشتراطات الخارجية يكرّس مسيرة طويلة من الخضوع

في سبيل المنصب والحكم

يثير السلوك السياسي الأخير لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس موجة جديدة من الجدل والغضب الشعبي، بعد أن أقرّ صراحة التزامه بالاشتراطات الخارجية، وخصوصًا الأميركية والإسرائيلية، فيما يتعلق بما يُسمى بـ”الإصلاحات الداخلية” في مؤسسات السلطة.

ويكشف هذا الخضوع، الذي وصفه محللون بأنه امتداد لمسيرة طويلة من الانصياع مقابل البقاء في الحكم، عن حجم التنازلات التي باتت تتخذ طابعًا منهجيًا في إدارة السلطة الفلسطينية، حتى لو جاءت على حساب الثوابت الوطنية وحقوق الأسرى والشهداء.

فقبل يومين، أجرى محمود عباس مقابلة مطوّلة مع القناة الإسرائيلية الثانية عشرة، أثارت ضجة واسعة في الأوساط الفلسطينية والعربية، بعد أن صرح بوضوح: “بدأنا بالإصلاحات التي تعهدنا بها للولايات المتحدة، بما في ذلك وقف رواتب عوائل الأسرى والشهداء”.

وتابع قائلاً: “نأمل أن يسود السلام بيننا وبين إسرائيل، وأن نتمكن من تنفيذ جميع الإصلاحات المرتبطة بالتعليم والاقتصاد والأمن”.

وأوضح عباس أن حكومته وضعت خطة شاملة تشمل قطاعات التعليم والمالية والصحة والأمن، مضيفًا أن بعض بنودها “تم تنفيذها بالفعل”، بينما “يتطلب بعضها الآخر مزيدًا من الوقت”، إلى أن تصبح السلطة “نموذجًا في الإدارة والشفافية”، على حد تعبيره.

غير أن جوهر هذه “الإصلاحات” – كما وصفها المراقبون – ليس سوى تطبيق حرفي لاشتراطات أميركية وإسرائيلية تهدف إلى إعادة هندسة السلطة الفلسطينية لتصبح كيانًا منضبطًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا بما يخدم المصالح الإسرائيلية ويضمن استقرار الاحتلال، لا تطلعات الشعب الفلسطيني.

محمود عباس ويكيبيديا

قوبلت تصريحات عباس – التي تضمنت تعهّدًا علنيًا بوقف رواتب الأسرى والشهداء –بموجة استياء عارمة في الشارع الفلسطيني، الذي اعتبرها طعنة في الذاكرة الوطنية ونكوصًا عن التزامات أخلاقية وقانونية تجاه من ضحّوا في سبيل الحرية.

ففي الوقت الذي لا تزال فيه غزة تلملم جراحها بعد عامين من حرب الإبادة التي أودت بحياة أكثر من 67 ألف شهيد، يظهر عباس على شاشة قناة إسرائيلية، يتحدث عن “السلام والإصلاح” ويقدّم تنازلات جديدة تُمكّن الاحتلال من إحكام السيطرة الاقتصادية والسياسية على الفلسطينيين.

ويرى ناشطون ومحللون أن عباس لم يعد يتحدث باسم الفلسطينيين، بل باسم منظومة “الدعم الدولي” التي تضمن له البقاء في مقره برام الله. فبدلاً من مخاطبة العائلات الثكلى في غزة والضفة، اختار أن يرسل تطميناته إلى تل أبيب وواشنطن، في مشهد يعكس حجم العزلة السياسية التي يعيشها الرجل ونظامه.

اشتراطات سياسية بثوب “إصلاحي”

يؤكد الباحث في مركز تقدّم للسياسات، أمير مخول، أن ما يُطرح من “إصلاحات” ليس سوى اشتراطات سياسية ذات طابع استعماري مفروضة من المجتمع الدولي على السلطة الفلسطينية، تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني بما يتناسب مع معايير المانحين، وليس مع مصالح الشعب.

ويوضح مخول أن هذه الشروط تشمل تغييرات جوهرية في المناهج التعليمية، وتقييد حرية التنظيم السياسي، وتعديل سياسات الأمن الداخلي بما يجعلها أداة لضبط المجتمع الفلسطيني أكثر منها وسيلة لحمايته.

ويشير إلى أن السلطة تُبدي استعدادًا كاملًا للتكيّف مع هذه الشروط، سعيًا لنيل “الرضا الدولي” وضمان تدفق الأموال والدعم السياسي.

ويرى مراقبون أن هذه الإصلاحات تمثل إعادة إنتاج لسياسة التنسيق الأمني القديمة ولكن بثوب أكثر انضباطًا، حيث تُصاغ الآن بلغة “الحوكمة والإدارة الرشيدة”، في حين أن جوهرها الحقيقي هو ضمان أمن إسرائيل ومنع أي حراك مقاوم في الضفة الغربية.

سلطة بلا سيادة

المفارقة، بحسب محللين سياسيين، أن السلطة – التي وُجدت أساسًا لإدارة شؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال – تحوّلت إلى أداة لضبط الفلسطينيين أنفسهم، وباتت سياساتها مرهونة بما يقرره البيت الأبيض أو مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.

وخضوع عباس للاشتراطات الأميركية، وفق المراقبين، ليس حدثًا جديدًا بل سلسلة متصلة من التنازلات بدأت منذ توليه رئاسة الحكومة في 2003، عندما جعل من “خارطة الطريق” الأميركية مرجعية مطلقة، مرورًا بموقفه من الالتزام بالتنسيق الأمني ومحاربة فصائل المقاومة، وصولاً إلى تعاونه الضمني مع خطة ترامب-نتنياهو المعروفة بـ”صفقة القرن” رغم معارضته العلنية لها.

وتُظهر مواقف عباس أن الهاجس الوحيد الذي يحكم قراراته هو الحفاظ على منصبه في وجه الضغوط الأميركية والإسرائيلية المتزايدة، حتى لو تطلّب ذلك التفريط في ملفات حساسة كرواتب الأسرى والتعليم الوطني والهوية الثقافية.

ويرى خبراء أن هذا النهج يُضعف الموقف الفلسطيني الرسمي في المحافل الدولية، ويُكرّس صورة قيادة فاقدة للشرعية الشعبية، خصوصًا مع غياب الانتخابات العامة منذ عام 2006 واستمرار القمع السياسي في الضفة الغربية.

ويشير هؤلاء إلى أن “السلطة باتت تعيش في فقاعة سياسية”، تعتمد في بقائها على الدعم المالي الغربي لا على التفويض الشعبي، وأن أي إصلاحات تُفرض من الخارج لن تُنتج إلا سلطة أكثر هشاشة وفقدانًا للثقة.

وبهذا الصدد يؤكد الباحث أمير مخول أن مستقبل فلسطين لا يمكن أن يُرسم ضمن هذا الإطار الدولي الضاغط، بل يجب أن ينبع من البعد العربي الشعبي، الذي يُعدّ اليوم عنصر القوة الأبرز في ظل تصاعد الحراك العربي والدولي لعزل الاحتلال ومحاسبته.

لكن طالما بقيت السلطة الفلسطينية تسير في فلك الإملاءات الأميركية والإسرائيلية، فلن تكون سوى كيان إداري فاقد للسيادة، محكوم بعقلية البقاء لا التحرر.

وفي النهاية، فإن ما يسميه عباس “إصلاحات” لا يُعد سوى وجه جديد لمسيرة طويلة من الخضوع السياسي، جعلت من السلطة مشروعًا مؤجلًا، ومن حلم الدولة المستقلة شعارًا بلا مضمون.

فمن أجل الكرسي والمنصب، اختار عباس أن يرضي واشنطن وتل أبيب، بينما يُدير ظهره لشعبٍ ينزف في غزة وينتظر قيادة تؤمن بالتحرر لا بالتنسيق، وبالكرامة لا بالبقاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى