تحليلات واراء

عجز إسرائيلي على فرض مكاسب سياسية في غزة بعد حرب الإبادة

رغم القوة النارية الهائلة والدمار الواسع الذي أحدثته دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزّة خلال عامين من حرب الإبادة الجماعية، فإنّ قدرة تل أبيب على تحويل هذه المآلات الميدانية إلى مكاسب سياسية وأمنية دائمة تظل محدودة ومضطربة.

وإذا كان الحديث عن لبنان يفضي إلى تساؤلات حول مدى إمكانية إخراج حزب الله من معادلات القوة، فإنّ قطاع غزة يعكس أزمة أكثر عمقاً يتعلق بكيفية ترجمة هزائم وانتصارات ميدانية إلى واقع سياسي مستدام يخدم المصالح الإسرائيلية؟.

وبحسب مراقبين فإن جوهر المشكلة يكمن في الهدف، في ظل السعي الإسرائيلي في غزّة إلى نزع سلاح المقاومة وإعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي هناك بطريقة تضمن عدم عودة تهديدات مسلحة.

لكن الصيغة التي أعلنت عنها خارطة ترامب تبرر وجود قوة شرطة فلسطينية محدودة ورافعة دولية لعملية «نزع السلاح»، تضع المشكلة في خانة تعددية الأطراف التي لا تناسب الرغبة الإسرائيلية بالتحكّم الحاسم.

ويؤكد المراقبون أن أي تحويل لقطاع غزّة إلى مشروع دولي يقلل من قدرة دولة الاحتلال على الحسم ويمنح أطرافاً إقليمية ودولية قدرة فاوضية على القرار، وهو ما يمثل أحد أسباب القلق الإسرائيلي من أن تصبح تل أبيب شريكاً بين شركاء، لا السيّد الوحيد على قرار ما بعد الحرب.

بموازاة ذلك فإن الربط بين إعادة الإعمار ونزع السلاح هو عقدة عملية واستراتيجية. إذ أن كل تجربة سابقة تُظهر أنّ تعبئة موارد ضخمة لإعادة إعمار من دون ضمانات تنفيذية لنزع البنى العسكرية يسمح للفصائل باستخدام الممرات الإنسانية والاقتصادية لإعادة بناء قدراتها.

بهذا الصدد يزعم محللون إسرائيليون بمخاوف من أن تؤدي الأموال والمساعدات إلى دورة إعادة تأهيل سريع للقدرات العسكرية لحماس إذا لم ترافقها آليات رقابة فعّالة وقسرية على المواد والتوظيف.

لكن السيناريو المقابل أن تُشدد دولة الاحتلال الإجراءات وتعيق دخول المساعدات، بما يعيد إنتاج المأساة الإنسانية ويزيد من الاحتقان الداخلي ويُضعف الشرعية الدولية لإجراءاتها.

غياب الحل السياسي المستدام

يؤكد المراقبون أن غياب حل سياسي متفق عليه محلياً يجعل أي “نصر” عسكري هشّاً.

ففي لبنان، بات واضحاً أن الدولة بمؤسساتها غير قادرة على مصادرة سلاح حزب الله أو فرض سلطة موحّدة في جنوب البلاد.

وفي غزّة أيضاً، المسألة ليست ببساطة فصل فصيل مسلح عن المجتمع؛ باعتبار أن حركة حماس متغلغلة في نسيج الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأي محاولة لاقتلاعها عسكرياً ستترك فراغاً يصعب السيطرة عليه أو تعبئته بحلفاء مؤيدين لإسرائيل.

وبحسب المراقبين فإن الحلّ السياسي يتطلّب بنية داخلية فلسطينية قادرة على ملء هذا الفراغ، وهي حالة غير موجودة اليوم.

يضاف إلى ذلك أن التأثير الدولي والإقليمي محدودان لصالح دولة الاحتلال. فدعم واشنطن أو أي قوة دولية آخر لا يكفي بحد ذاته لتحويل موازين القوى إذا لم يترافق مع خطة تنفيذية طويلة الأمد تعمل على إعادة التوازن السياسي داخل المجتمع الفلسطيني.

وتدخّل دول إقليمية في الملف يضفي مزيداً من التعقيد باعتبار أن أي محاولة لإعادة الإعمار أو لحفظ الاستقرار ستتطلب توازناً دقيقاً بين مصالح مصر وتركيا وقطر ودول خليجية أخرى، ما يقلّص هامش المناورة الإسرائيلية.

لكن الأبرز أن ثمّة تبعات داخلية لإسرائيل نفسها، فالرهان على الحل العسكري وحده يولّد تكاليف اقتصادية وسياسية وثقافية.

كما أن استمرار حالة الطوارئ الطويلة يرهق المؤسسة الإسرائيلية ويغذي نقاشات داخلية عن فاعلية الاستراتيجيات، ويزيد احتمال تآكل الدعم الشعبي لسياسات مكلفة ومطوّلة. وهذا الفتور الشعبي يمكن أن ينقلب إلى ضغط سياسي يعيد تشكيل الخيارات الإسرائيلية مستقبلاً.

أما النتيجة الأكثر قسوة فهي أن الخيارات المتاحة تبدو أحادية، بحيث إمّا أن تقبل دولة الاحتلال بتقاسم السيطرة مع جهات دولية وإقليمية، مع ما يترتب على ذلك من تنازلات، أو أن تختار الحسم العسكري المتواصل الذي يعيد إنتاج الدمار والتوتر دون ضمان نتائج سياسية مستقرة.

وفي غياب أفكار جديدة، بدائل دبلوماسية إبداعية، أو خارطة طريق سياسية داخلية فلسطينية قابلة للتنفيذ، يبقى المشهد متأرجحاً بين تهدئة هشّة ومواجهة متجددة.

وفي الحالتين، تبدو دولة الاحتلال عاجزة عن تحويل القوة العسكرية الكبيرة التي استخدمتها إلى “نصر” استراتيجي دائم في غزّة ما يضع مستقبل الأمن الإقليمي في حالة من عدم اليقين العميق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى