تحليلات واراء

لجنة فرنسية–فلسطينية لصياغة الدستور.. عباس يكتب خيانة سياسية جديدة بجلب وصاية أجنبية

أثار الإعلان الصادر عقب لقاء رئيس السلطة محمود عباس مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشأن تشكيل لجنة فرنسية–فلسطينية لصياغة دستور فلسطيني مؤقت، موجة واسعة من الرفض والاستنكار في الأوساط الوطنية باعتبار الخطوة تمثل تدخلاً مباشرًا وسافرًا في أدق شؤون السيادة الفلسطينية بتحديد شكل النظام السياسي وقواعد الحكم للمستقبل.

وتعد الخطوة التي جاءت تحت عنوان “التعاون القانوني”، بحسب محللين وخبراء، إقحامًا لدولة أجنبية في ملف حساس يتجاوز حدود المشورة التقنية، ويصل إلى مستوى التأثير الفعلي في البنية السياسية الفلسطينية، بما يكرّس منطق الوصاية ويعيد إنتاج علاقة تبعية لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف.

ويشدد مراقبون على أن إعلان اللجنة المذكورة لا يمكن قراءته كخطوة تقنية أو شكلية، بل هو تحول خطير نحو فرض وصاية أجنبية على القرار الوطني الفلسطيني، وتجاوز كامل لضرورة التوافق الوطني على أهم وثيقة تمس مستقبل الفلسطينيين.

إذ أن ما جرى ليس “تعاونًا قانونيًا” بل خلخلة لأسس السيادة الفلسطينية، ويجب أن يواجه برفض وطني واسع، لأن الدستور لا يُكتب في مكاتب السفراء، بل في ساحات الشعوب، وبإرادة الفلسطينيين وحدهم.

دستور فلسطين شأن وطني خالص

عبر الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري بوضوح عن رفضه لهذه الخطوة، معتبرًا أنها “تدخل مباشر وسافر في الشأن الفلسطيني الداخلي، فالدستور مسألة وطنية وتتطلب توافقًا فلسطينيًا، ولا يجوز صياغتها بشكل منفرد أو بإشراف أي دولة أجنبية، لأنه يمثل الفلسطينيين في الحاضر والمستقبل.”

وشدد المصري على أن اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية — وهو اعتراف سياسي لا قانوني — لا يعطيها بأي شكل من الأشكال الحق في التدخل في صياغة دستورها أو المشاركة في تشكيل بنيتها التشريعية، مؤكدًا أن ما خرج من لقاء ماكرون–عباس يمثل “صياغة معيبة لا يمكن قبولها وطنيًا”.

وتاريخيًا، استخدمت القوى الكبرى مفهوم “المساعدة الفنية” للتدخل في شؤون الدول الضعيفة. وما جرى بين عباس وماكرون يعيد إنتاج هذا النمط؛ إذ إن اللجنة المعلنة لا تبدو مجرد إطار استشاري، بل يبدو أنها معبر لفرنسا للتأثير المباشر على شكل الدستور، وفرض نماذج حكم وسياسات تتماشى مع رؤيتها ومصالحها في المنطقة، وخصوصًا ما يتعلق بعلاقتها مع الاحتلال الإسرائيلي.

ويتزامن هذا الأمر مع لحظة سياسية حساسة، إذ يواجه الفلسطينيون فراغًا سياسيًا وتآكلًا مؤسساتيًا وانقسامًا داخليًا، ما يجعل أي تدخل خارجي قابلًا للاستغلال بهدف إعادة هندسة الساحة السياسية الفلسطينية وفق إرادة خارجية، وتحديدًا إرادة السلطة والدول الداعمة لها.

القانون الأساسي يسمح بالاستعانة بخبراء… لا بفرض وصاية

يشير خبراء قانونيون إلى أن القانون الأساسي الفلسطيني لا يمنع الاستعانة بخبراء دوليين لتقديم استشارات فنية في صياغة القوانين أو الدساتير. ولكن هذا — كما يوضح المختصون — لا يمنح أي دولة أجنبية سلطة تشريعية أو قرارية.

والدور المسموح به قانونًا يقتصر على تقديم المشورة، والدعم الفني، وإعداد تقارير أو ملاحظات غير ملزمة.

أما القرار النهائي فيبقى فلسطينيًا بالكامل، سواء على مستوى المجلس التشريعي (المعطّل)، أو من خلال لجنة وطنية توافقية، أو عبر آليات استفتاء وتوافق وطني.

وعليه، فإن تحويل “الاستشارة” إلى شراكة سياسية في صياغة الدستور يعدّ انحرافًا خطيرًا يتجاوز حدود المقبول قانونيًا وسياسيًا.

عباس يفرض صيغة أحادية تتجاوز الإرادة الوطنية

الانتقادات الواسعة التي رافقت الإعلان لم تأتِ فقط من نخب سياسية، بل من قطاع واسع من الفلسطينيين يرى أن عباس يكرس انفراده بقرارات مصيرية دون العودة للمؤسسات الوطنية أو للحد الأدنى من التوافق.

ويمثل صياغة الدستور أعلى مستوى من مستويات القرار الوطني، لأنها تحدد شكل السلطة، ونظام الحكم، والعلاقة بين السلطات، والحقوق والواجبات، إلى جانب آليات الانتقال السياسي، فيما  لا يمكن لأي جهة، وخاصة السلطة الحالية، أن تتفرد بتحديد شكل الدولة الفلسطينية المستقبلية دون مشاركة القوى السياسية والمجتمع المدني والداخل والخارج.

ويؤكد منتقدو الخطوة أن السلطة لم تحصل على أي تفويض شعبي يخولها توقيع اتفاقيات مصيرية بهذا الحجم، وأن إشراك فرنسا يمثل سابقة خطيرة تمهّد لإعادة إنتاج نموذج وصاية شبيه بما حدث في دول أخرى تعرضت لتدخل أجنبي تحت عنوان “دعم الانتقال الديمقراطي”.

كما أن المخاوف لا تتعلق فقط بالتدخل الخارجي، بل أيضًا باستخدام عباس لهذه الخطوة لتعزيز موقعه الضعيف داخليًا، من خلال الحصول على “شرعية دولية” تعوّضه عن فقدان الشرعية الشعبية.

وترى العديد من الشخصيات الوطنية أن ما جرى ليس سوى صفقة سياسية تمنح فرنسا نفوذًا داخل القرار الفلسطيني، مقابل حصول عباس على دعم سياسي وشكلي يعيد تلميعه خارجيًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى