الدستور الموعود… حلقة جديدة في خضوع السلطة للإملاءات الخارجية

يرى مراقبون بما يجري اليوم على خط باريس–رام الله بشأن إعداد الدستور الفلسطيني بأنه امتداد مباشر لنهج قديم بدأه الجنرال الأميركي كيث دايتون عندما تباهى أمام الكونغرس بأنه يعمل على صناعة “الإنسان الفلسطيني الجديد”، أي تحويل الفدائي السابق إلى موظف أمني يحرس الاحتلال.
إذ أن هذه الفلسفة ذاتها تُستعاد اليوم، لكن بثوب أكثر فجاجة حيث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتصدر عملية صياغة الدستور الفلسطيني الجديد، سعيا لتوجيه الضربة الأخطر للحقوق الوطنية الفلسطينية منذ أوسلو.
ويبرز الباحث والأكاديمي الفلسطيني ناجي الخطيب أنه لا يمكن البحث في “الدستور” الجديد بمعزل عن تاريخ “القانون الأساسي” الذي فُصِّل بالكامل لاستيعاب التحولات التي أرادتها واشنطن عقب اندلاع الانتفاضة الثانية.
ففي حينه كانت “خريطة الطريق” والرباعية الدولية تعبّد الطريق لتمكين محمود عباس على حساب ياسر عرفات الذي فُرضت عليه العزلة تمهيداً لإبعاده عن المشهد.
وعندما وقّع عرفات على النسخة المعدّلة مُكرهاً في 2002، كان ذلك بمثابة الإعلان الرسمي عن انتقال السلطة الفلسطينية إلى نموذج وظيفي يقوم على تفكيك الصلاحيات وتكريس تبعية القرار السياسي والإداري للخارج.
واليوم يعاد المشهد ذاته مع ماكرون: دستور يُفصَّل لكي يكون محطة جديدة في مشروع التصفية، دستور لا يخدم الشعب بل يخدم منظومة سياسية تعيش على شرعية مستوردة من الخارج منذ 2006.
ماكرون… المُشرّع الاستعماري الجديد
المفارقة الصارخة أن رئيساً فرنسياً يمثل دولة متورطة حتى اليوم في تزويد الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح خلال حرب الإبادة، ويمارس سياسة داخلية مناقضة للديمقراطية، يسمح لنفسه أن يُملي على الفلسطينيين شكل دستورهم!.
كما أن فرنسا التي تقمع التظاهرات المؤيدة لفلسطين، وتجرّم التضامن مع غزة، وتغطي سياسياً الجرائم الإسرائيلية، أصبحت فجأة وصيّاً على “تحقيق العدالة الدستورية في فلسطين”.
الأدهى أن هذه الرؤية تتقاطع مع البيان الفرنسي–السعودي الأخير الذي تجاهل ذكراً صريحاً للقرارات الأممية الخاصة بفلسطين، ما يسمح بالالتفاف على القرارات الحاسمة مثل 181 و194، وتحويل حق تقرير المصير إلى مجرد بند تجميلي يسهل شطبه في اللحظة السياسية المناسبة.
ويؤكد الخطيب أن موافقة محمود عباس على الدخول في مسار صياغة دستور جديد ليست تفصيلاً إجرائياً، بل خطوة مكمّلة لمنظومة بدأت منذ 2003 حين قبل سحب صلاحيات عرفات لصالح منصب رئيس الوزراء واستلم هو السلطة بأدوات أميركية واضحة.
والآن يريد عباس — المتمسّك بكرسي بلا شرعية انتخابية منذ 19 عاماً — أن يضع ختمه على دستور جديد يضمن انتقال السلطة إلى وريثه اللاشرعي حسين الشيخ، ويثبت الإطار السياسي الذي يُراد له أن يكون الصيغة النهائية لتصفية القضية الوطنية.
وكل ذلك يستهدف إسقاط حق تقرير المصير الشامل للشعب الفلسطيني، وتجريد حق العودة من مضمونه، وتحويل الحقوق التاريخية إلى بنود تفاوضية متآكلة داخل دستور يتبنّى رؤية فرنسية–أميركية–إسرائيلية مشتركة.
التفاوض على حق تقرير المصير!
يشدد الخطيب على أن حق تقرير المصير في القانون الدولي حق شامل وجماعي، لا يتجزأ، ولا يمكن اختزاله في سكان الضفة وغزة أو في الخطوط التي ترسمها واشنطن وباريس.
فهذا الحق يرتبط بحق العودة — الفردي والجماعي — الذي لا يسقط بالتقادم، ولا يحق لأي سلطة فلسطينية التفاوض بشأنه. أما الدستور المطروح اليوم، فهو محاولة لإنشاء منظومة “فلسطينية جديدة” تُدار وفق مقاييس أمن الاحتلال ومصالح الغرب، بحيث يصبح حق العودة مجرد ذكر رمزي في الفاتحة الدستورية دون أي التزام إلزامي أو سياسي.
وعليه فإن ما يُخطَّط له هو تحويل حرب الإبادة في غزة إلى إبادة سياسية–قانونية لحقوق الشعب الفلسطيني. فإذا كانت إسرائيل قد هجّرت الشعب بالقوة، فإن الدستور الجديد يريد تهجير حقوقه على الورق.
والأخطر أن بعض الشخصيات اليسارية في فرنسا التي تُعرف بدعمها للقضية الفلسطينية بدأت تقع في فخ الرؤية التجزيئية التي يطرحها ماكرون.
فهذه الشخصيات تتحدث عن “واقعية سياسية” وتتجاهل أن الحقوق الوطنية ليست رهن مزاج الحكومات، بل هي حقوق غير قابلة للتفاوض. عندما يقول البعض إن “الحقوق ليست أبدية” فهم يعيدون إنتاج خطاب صهيوني يهدف إلى نسف حق العودة وإضفاء الشرعية بأثر رجعي على التهجير.
ويختم الخطيب بالتحذير من أن ما يجري هو محاولة مصادرة إرادة الشعب الفلسطيني عبر دستور مفروض من الخارج. دستور يسقط جوهر القضية الفلسطينية، ويقزّم حق تقرير المصير، ويحوّل النضال التاريخي إلى ملف إداري تديره سلطة فقدت شرعيتها منذ نحو عقدين.
وينبه إلى أن الدستور الفرنسي–الفلسطيني الموعود ليس مشروع دولة، بل مشروع دفن. دفن للحق، ودفن للذاكرة، ودفن لآخر ما تبقى من إرادة سياسية مستقلة. وفي ظل قيادة فلسطينية مستعدة للانصياع، ودعم غربي لا يخفي نواياه، يصبح الشعب الفلسطيني أمام أخطر محاولة لتصفية حقوقه منذ النكبة.





