غزة بعد الحرب: السلطة الفلسطينية تضع العراقيل في القاهرة

بينما تجري المباحثات الفلسطينية حول “اليوم التالي للحرب” في غزة تحت الرعاية المصرية، تبدو السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح وكأنهما يضعان العراقيل أكثر من فتح الأبواب.
وتهدف الاجتماعات الجارية بين وفود الفصائل الفلسطينية إلى وضع الأسس لإعادة الإعمار وإدارة الشأن المدني في القطاع، لكن ما يحدث على طاولة القاهرة يعكس عمق الانقسام الفلسطيني وتعنت السلطة في استعادة نفوذها على حساب الشراكة الوطنية.
وأكدت مصادر متقاطعة من داخل الاجتماعات أن ممثل حركة فتح والسلطة الفلسطينية أبدى استياءه من غياب دور فاعل للسلطة في إدارة المرحلة المقبلة في غزة، في وقت يبدو فيه همّ السلطة أقل ارتباطًا بتخفيف معاناة السكان أو ضمان عدم إعادة العدوان، وأكثر ارتباطًا باستعادة السيطرة الإدارية بأي ثمن.
وفقًا للتسريبات، طالبت السلطة بأن يتولى وزير الصحة في حكومة رام الله، ماجد أبو رمضان، رئاسة لجنة إدارة غزة، محاولة واضحة لتثبيت موطئ قدم سياسي وتنفيذي في اللجنة التي اقترحتها القاهرة.
الرد المصري كان حاسمًا: لا عودة للسلطة كطرف إداري مباشر، ودورها سيكون “شرعيًا فقط” ضمن مرجعية وطنية للجنة من أبناء القطاع.
وقد اختارت القاهرة قائمة أولية من أربعين اسمًا، ثم قلصتها إلى ثمانية فقط، جميعهم من أبناء غزة الذين صمدوا خلال الحرب، بهدف منع الشخصيات البيروقراطية التي فقدت مصداقيتها من العودة إلى المشهد.
لكن السلطة لم تتوقف عند حدّ الرفض المصري، إذ حاولت استخدام “باب المال”، طالبة أن تكون هي الجهة التي تحشد الدعم الدولي وتدير أموال إعادة الإعمار.
بدورها القاهرة رفضت هذا الطلب، مؤكدة أن مهمة التنسيق وجلب التمويل ستبقى من اختصاصها، لضمان عدم تحويل الأموال إلى وسيلة ابتزاز سياسي أو أداة لتغذية الفساد الذي التصق باسم السلطة منذ سنوات.
المؤلم أن ممثلي السلطة خلال المداولات أبدوا تأييدهم لشرط “نزع سلاح حماس”، وهو شرط إسرائيلي صريح، يتناقض تمامًا مع أي منطق وطني.
وبدلاً من حماية سلاح المقاومة الذي منع الاحتلال من تحقيق أهدافه، نجد السلطة تساند شروطًا تهدف إلى تجريد غزة من قوتها الدفاعية، كاشفة عن ولاء سياسي للغرب أكثر من ولاءها لشعبها.
في المقابل، كانت قيادة حركة حماس أكثر وضوحًا في موقفها، داعية إلى لقاء وطني فلسطيني جامع لتوزيع المسؤوليات وإدارة الشأن المدني في غزة ضمن تفاهم وطني شامل. فتح لم تستجب، رغبة منها في احتكار القرار وإبقاء أموال الإعمار تحت يدها، لتستعيد السيطرة على القطاع بدلاً من بناء شراكة وطنية.
جوهر الخلاف سياسي بامتياز: القاهرة تسعى لتوازن يحمي مصالحها الإقليمية ويضمن استقرار معبر رفح، بينما تريد واشنطن وتل أبيب ترتيبًا يكسر شوكة المقاومة، وتجد السلطة نفسها أداة لتمرير الشروط الإسرائيلية تحت غطاء الشرعية الفلسطينية، متجاهلة أن الشرعية تُستمد من الدم والتضحيات، لا من الاعتراف الدولي أو مقعد في اجتماع.
في نهاية المطاف، ما يجري في القاهرة ليس مجرد حوار إداري، بل صراع على هوية غزة في اليوم التالي للحرب: هل ستكون غزة مقاومة حرة وصامدة، أم غزة خاضعة للبيروقراطية والفساد؟.
السلطة، كما يبدو، لم تتعلم من التاريخ: لا يمكن اختزال غزة في قرارات مكتبية أو حسابات مالية، فهي تحتاج إلى مشروع وطني صادق يعيد الاعتبار للشعب الذي قاوم، وبنى، وصمد في وجه العدوان.
غزة المستقبل، كما يؤكد المراقبون، لن تُدار إلا بإرادة أبنائها، وليس بقرارات السلطة أو السياسات الإسرائيلية والضغوط الدولية، وكل من يحاول تحويلها إلى مجرد ملف إداري سيكتشف سريعًا أن المقاومة لا تُقهر إلا بمقاومتها.





