كيف تحوّلت السلطة الفلسطينية إلى أداة للتدخل في الشؤون العربية؟

منذ تأسيسها كنتاج لاتفاق أوسلو في منتصف التسعينيات، لم تكتفِ السلطة الفلسطينية بإدارة مناطق محدودة من الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال، بل انخرطت – وبشكل متزايد – في التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، في سياق تحالفات ظرفية ومصالح فئوية ضيقة، بعيدًا عن الإجماع الوطني الفلسطيني أو الموقف القومي العام.
وقد تبدّت هذه السلوكيات في عدة محطات تاريخية، بدءًا من تأييد منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات للغزو العراقي للكويت عام 1990، إلى تورّط الرئيس محمود عباس اليوم في تبنّي مشاريع انفصالية في سوريا، مرورًا بمواقف رمادية أو مخزية في محطات عربية مفصلية.
عرفات وغزو الكويت: بداية الانحراف
في صيف 1990، حين اجتاحت القوات العراقية الكويت، وقفت قيادة منظمة التحرير – بشكل صريح – إلى جانب نظام صدام حسين. وعلى الرغم من أن موقف المنظمة جاء تحت شعار “الحياد الإيجابي” ورفض الاصطفاف مع التحالفات الغربية، إلا أن دعمها للعراق عُدّ تدخلاً سافرًا في السيادة الكويتية، وأدى إلى قطيعة عربية حادة استمرت سنوات.
لم يكن هذا الموقف نابعًا من قراءة واقعية للمصلحة الفلسطينية، بل جاء نتيجة مزايدات سياسية واصطفافات أيديولوجية فشلت في حماية القضية الفلسطينية، بل ألحقت بها أذى كبيرًا.
فقد جُرّدت منظمة التحرير من دعم مالي خليجي واسع، وشهدت علاقتها بمعظم العواصم العربية انحدارًا حادًا، انعكس على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في الكويت والخليج.
أوسلو وما بعده: تدخل بالوكالة
بعد إقامة السلطة الفلسطينية عام 1994، أُعيد تشكيل شبكة تحالفاتها العربية، لكن ليس بما يخدم استقلال القرار الفلسطيني، بل ضمن مصفوفة التبعية الجديدة لواشنطن وتل أبيب. وهنا بدأت تظهر ملامح تدخلات السلطة بطريقة أكثر احترافية وهدوءًا، لكنها لم تقلّ خطورة.
ففي عهد الرئيس محمود عباس، لم تتوانَ السلطة عن مساندة أنظمة عربية قمعية ضد شعوبها، سواء بالصمت، أو بالمواقف المعلنة التي تخدم محور “الاستقرار الأمني” الذي تروج له أنظمة الخليج ومصر.
فأثناء ثورات “الربيع العربي”، لم تصدر السلطة أي دعم يُذكر للحراكات الشعبية في تونس أو مصر أو سوريا، بل ذهبت إلى تجريم حركة حماس وشيطنة أي حراك سياسي خارج عباءة “الاعتدال”، في تناغم كامل مع خطاب أبو ظبي والرياض.
دروز سوريا: التدخل الأكثر خطورة
وفي آخر محطات التدخل المكشوف، خرج الرئيس محمود عباس ليُعلن تأييده الكامل للدروز في سوريا، في ظل التصعيد الأمني في محافظة السويداء جنوب البلاد.
ووفق مصادر مطلعة، أرسل عباس رسائل دعم مباشرة إلى الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، في وقت كان فيه الهجري يُطلق نداءات تدعو للحماية الأميركية والإسرائيلية.
وهذه ليست مجرد “خطوة تضامنية”، بل تدخل سياسي خطير، يُعبّر عن انخراط السلطة في مشروع تقسيمي تقوده الإمارات وإسرائيل في جنوب سوريا، قائم على استغلال الورقة الطائفية لإضعاف وحدة البلاد وخلق جيوب انفصالية تدين بالولاء لمحاور التطبيع.
فما الذي يدفع سلطة فلسطينية تحت الاحتلال إلى التورط في دعم مشروع انفصالي في دولة عربية؟ الجواب بسيط: الاصطفاف الكامل مع المحور الإماراتي، الذي يوفر المال والحماية السياسية لعباس، مقابل خدمات إقليمية تمتد من لبنان إلى سوريا واليمن.
من رام الله إلى الخليج: دور وظيفي مدفوع
تُدرك عواصم عربية كثيرة أن سلطة عباس لا تملك قرارًا سياديًا حرًا، بل تمارس أدوارها في سياق ما يُطلب منها إقليميًا ودوليًا. ومن خلال العلاقات القوية مع الاستخبارات المصرية والإماراتية، تعمل السلطة كوسيط أمني وسياسي في ملفات حساسة، ليس لحماية القضية الفلسطينية، بل لحماية مصالح الأنظمة.
فعلى سبيل المثال، يُتهم عباس بالضغط على بعض فصائل المقاومة في لبنان لخفض نشاطها أو “ضبطها”، كما تورط مقربون منه في التواصل مع شخصيات سياسية لبنانية للتحريض على وجود المقاومة الفلسطينية في المخيمات، في سياق يشبه ما يجري اليوم في السويداء السورية.
وبذلك، تحولت السلطة إلى ذراع تنفيذية لتحالف التطبيع العربي الإسرائيلي، تُوظف أدواتها الأمنية والإعلامية في خلق بيئات داخلية منقسمة، تحت غطاء “الشرعية” الفلسطينية.
الفلسطينيون يدفعون الثمن
المفارقة الموجعة أن السلطة، التي تُبرر تدخلاتها الخارجية بحماية مصالح الفلسطينيين، لا تستطيع حماية أهلها في الضفة الغربية، حيث تُمارس إسرائيل يوميًا القتل والاعتقال والتنكيل، دون أن تصدر منها أي خطوة عملية.
في حين يتفرغ مسؤولوها لإدارة معارك سياسية في دول عربية، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، سوى إرضاء الحلفاء الإقليميين.
كما أن تدخلات السلطة أضعفت موقفها العربي والدولي، حيث بات يُنظر إليها كأداة إشكالية، تنخرط في الاستقطابات الإقليمية بدل أن تقود مشروعًا تحرريًا جامعًا.
الحاجة إلى استقلال القرار
إن ما قامت وتقوم به السلطة الفلسطينية من تدخلات في الشأن العربي لم يعد مقبولًا، لا سياسيًا ولا وطنيًا. فالقضية الفلسطينية تحتاج اليوم إلى قيادة تُعيد استقلالية القرار السياسي الفلسطيني، وتُخرج نفسها من لعبة المحاور التي لا تخدم إلا الاحتلال والأنظمة المستبدة.
فتأييد غزو العراق للكويت كان خطيئة كبرى، لكن دعم مشروع انفصالي درزي يستدعي الحماية الإسرائيلية هو خيانة مكتملة الأركان.
وإذا لم تُحاسب هذه السلطة على تدخلاتها، فإنها ستستمر في إلحاق الأذى بشعبها وبالشعوب العربية من حولها، لا بوصفها ممثلاً شرعيًا، بل كوكيل يتقن خدمة الآخرين أكثر من الدفاع عن نفسه.