يقين حماد: أصغر مؤثرة في غزة تودّع الحياة تحت القصف الإسرائيلي

في زمن تُسرق فيه الطفولة تحت هدير الطائرات الحربية الإسرائيلية، برزت الطفلة يقين حماد، ذات الأحد عشر عامًا، كواحدة من أبرز الأصوات الصغيرة في غزة، لا بوصفها ضحية فقط، بل كقوة مضيئة وسط ظلام الحرب.
لكن تلك الابتسامة التي أصرّت على الصمود وسط الأنقاض أُسكتت للأبد، بعد أن استشهدت يقين في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منطقة البركة في دير البلح، ضمن سلسلة هجمات دامية اجتاحت القطاع نهاية الأسبوع الماضي.
يقين، أصغر مؤثرة في غزة، لم تكن ناشطة عادية على مواقع التواصل، بل كانت تقدم نصائح عملية للأطفال والعائلات للبقاء على قيد الحياة في ظروف الحرب القاسية: كيف يمكن الطهي من دون غاز؟ كيف تصنع لعبة من لا شيء؟ كيف تضحك وسط الركام؟ كتبت ذات مرة: “أحاول إدخال القليل من الفرح إلى قلوب الأطفال الآخرين حتى ينسوا الحرب، ولو لدقائق.”
طفلة… ورسالة أكبر من عمرها
لم تكن يقين تعمل وحدها، بل كانت ترافق شقيقها الأكبر محمد، أحد العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية، وتشاركه مهمة توزيع المساعدات — من طعام وملابس وألعاب — على العائلات النازحة في الملاجئ والمخيمات المؤقتة.
ومع كل زيارة، لم تكن تكتفي بتوزيع الحاجيات، بل كانت تحرص على زرع لحظات من البهجة، عبر الرقص والضحك والصلاة مع الأطفال الذين فقدوا منازلهم.
يقين كانت أيضًا ناشطة في مجموعة “أوينا”، وهي منظمة غير ربحية مقرها غزة تُعنى بالإغاثة الإنسانية، وهناك تحوّلت من مجرد متطوعة صغيرة إلى رمز للأمل والمبادرة. كانت ترفض أن تستسلم لواقع الحرب، وتحاول أن تصنع من حياتها رسالة، ومن كل يوم جديد فرصة للمساعدة.
استهداف البراءة: قصة الطفولة المغدورة
استشهدت يقين ليل الجمعة، عندما قصفت طائرات الاحتلال المنطقة التي كانت تتواجد فيها مع أسرتها.
وجاءت الغارة في إطار تصعيد عنيف شنه الاحتلال الإسرائيلي على مناطق متفرقة من قطاع غزة، أسفر عن مقتل أكثر من 100 مواطن خلال عطلة نهاية الأسبوع، بينهم عشرات الأطفال.
وفي غارة واحدة فقط، استُهدفت مدرسة تُستخدم كمأوى، واستشهد فيها 31 شخصًا أثناء نومهم، ما أثار موجة غضب دولية جديدة.
من بين الضحايا أيضًا، تسعة أطفال كانوا يتلقون العلاج لدى طبيب أطفال، في مشهد يلخص عمق المأساة التي تعيشها غزة، حيث لم تعد أي مساحة آمنة، ولا أي لحظة بعيدة عن الخطر.
الصدمة والحداد على مواقع التواصل
مع انتشار خبر استشهاد يقين، انهالت رسائل الحزن والرثاء من متابعين وناشطين وصحفيين حول العالم.
كتب أحدهم على منصة X (تويتر سابقًا): “بدلاً من أن تكون في المدرسة وتستمتع بطفولتها، كانت تُطعم الجياع وتنشر الفرح. لا كلمات تُوصف. لا كلمات إطلاقًا.”
وقال المصوّر الصحفي الغزي محمود بسام: “قد يكون جسدها قد رحل، لكن أثرها يبقى منارة للإنسانية. ياقين لم تكن مجرد طفلة، بل كانت صوتًا للمستضعفين، وروحًا تنبض بالمقاومة رغم صغر سنها.”
الحرب التي تبتلع الطفولة
ما تعرّضت له يقين ليس استثناءً، بل جزء من سياق واسع لحرب تستهدف الإنسان بكل ملامحه، ولا تستثني أحدًا.
القتل المتعمد للأطفال، وتدمير المدارس والمستشفيات والملاجئ، ليست “أخطاء عرضية” كما تحاول الرواية الإسرائيلية تصويرها، بل سياسة ممنهجة لضرب النسيج الاجتماعي والمجتمعي في القطاع المحاصر.
أن تُقتل طفلة مثل يقين — ليست فقط طفلة بل ناشطة إنسانية، ومؤثرة رقمية، ويدًا تمتد للغير — لهو دليل إضافي على أن إسرائيل لا تستهدف “المقاتلين” فقط، بل كل من يملك قدرة على بثّ الحياة في أرض قرّرت المؤسسة العسكرية تحويلها إلى مقبرة.
وقد تُمحى صور يقين من الذاكرة الرقمية بفعل خوارزميات الصمت، لكن من عرفها، من تابع نصائحها وضحكتها، من تلقّى منها وجبة أو لعبة، لن ينساها. إنها تمثل غزة الحقيقية: الطفلة المقاومة، النور في العتمة، الروح التي تقف في وجه القنابل برسالة: “سنعيش… وسنحب الحياة.”
قصة يقين ليست فقط مرثية، بل إدانة حية للعالم الذي سمح باستمرار المجازر، وشهادة على جيل يحاول أن يصنع إنسانيته تحت القصف، رغم أنف الاحتلال.