غزة تحت النار: طفولة مسروقة وحياة على حافة الهاوية

في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، يفرّ الفلسطينيون حاملين ما تبقّى من متاعهم، باحثين عن بقعة أكثر أمانًا في خضم حرب لا ترحم. ومن بين الركام والغبار، تتعالى صرخات الأطفال، ليس لعبًا أو فرحًا، بل خوفًا وجوعًا وألمًا وسط حياة على حافة الهاوية.
فحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تكتفِ بهدم الحجر؛ بل سلبت الإنسان، وخصوصًا الطفل، كل ما يملكه من أحلام وآمال.
أطفال غزة… أكبر ضحايا حرب الإبادة
منذ اندلاع العدوان، استشهد أكثر من 60 ألف طفلًا، الأمر الذي دفع المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني، إلى وصف الوضع بقوله: “قُتل من الأطفال في غزة خلال الأربعة الأشهر الأولى فقط للحرب أكثر مما قُتل في كل النزاعات المسلحة في العالم خلال أربع سنوات ونصف”. إنّه تصريح يعكس وحشية غير مسبوقة.
وفي وقت يعيش فيه العالم طفرة رقمية واقتصادية، يعيش أطفال غزة في عصور الظلام. أكثر من 625 ألف طفل حُرموا من حق التعليم، بعدما تحوّلت المدارس إلى أنقاض أو ملاجئ مكتظة. ولم يعد للعب مكان، ولا للضحك صوت، وسط هدير الطائرات وجثث الأقران.
مواليد الحرب: من رحم الحصار إلى جحيم الحياة
منذ بداية الحرب، وُلد في غزة ما يقارب 20 ألف طفل، بمعدل طفل كل عشر دقائق. لكن الولادة هنا ليست لحظة فرح بل لحظة نجات مؤقتة وسط الانهيار.
المستشفيات مدمّرة، الأدوية نادرة، والمساعدات تُقيّد على المعابر أو تتحكّم بها دولة الاحتلال عبر نظام توزيع وصفته المنظمات الدولية بـ”الفوضى العارمة”. الرضّع يُولدون في العتمة، ويُربّون وسط الخوف وسوء التغذية.
في حديث مؤلم، قالت إحدى الأمهات: “لم أتخيل أن أحصي عدد الحفاضات التي أمتلكها”. في غزة، الحفاضات والحليب وأدوية الأطفال أصبحت من الكماليات، والبقاء على قيد الحياة معركة يومية.
نور والبيضة… قصة من الجوع والصبر
نور، الطفلة ذات الثلاث سنوات، طلبت من والدتها بيضة واحدة. أمنية بسيطة، لكنها في غزة تتحول إلى معجزة. لا بيض، لا طعام، لا أسواق، ولا حتى دجاجة تبيض.
والد نور اضطر لصنع خلطة منزلية لتحفيز دجاجة العائلة على وضع البيض، وبعد محاولات، حدثت المعجزة. وضعت الدجاجة بيضة. عندما أُعدّت، قفزت نور فرحًا. بيضة واحدة تحولت إلى نصر صغير في مشهد يتحدّى قسوة الحصار.
عزمي ومعتصم وبيسان… حكايات قلبها الألم
عزمي أبو الشعر، طفل في العاشرة، كتب رسالة وداع مؤلمة على هاتفه قبل استشهاده: “سامحوني… أحبكم”. كلمات لا يجب أن تصدر عن طفل، لكنها في غزة أصبحت شائعة.
معتصم شقشق، 8 أعوام، لا يحلم سوى بالعودة إلى المدرسة. لا ألعاب ولا رحلات، فقط سبورة ودفتر.
بيسان التبان، 7 أعوام، تحلم بأن ترسم. قالت: “لا أريد سماع القنابل… أريد أن أرسم من جديد”. هذه ليست أماني مستحيلة، بل أبسط حقوق الطفولة.
الطفولة في غزة… حقوق منتهكة وعالم متواطئ
بحسب اتفاقية حقوق الطفل، يحق لكل طفل في العالم أن ينعم بالحماية والتعليم والرعاية الصحية واللعب. ولكن في غزة، كل هذه الحقوق غائبة:
الحق في التعليم: آلاف المدارس دُمّرت أو تحوّلت إلى ملاجئ، والمعلمون إما شهداء أو نازحون، والطلاب موزّعون بين الخوف والنزوح.
الحق في اللعب: الحدائق فارغة، الملاعب تحوّلت إلى مقابر جماعية، وضحكات الأطفال خنقتها الطائرات المسيّرة.
الحق في الأمان: لا منزل آمن، ولا حيّ مستثنى من القصف. الأطفال ينامون في حضن الرعب، ويصحوْن على رائحة الدم والتراب.
الحق في الصحة: الأمراض تتفشّى، والمستشفيات غير قادرة على تقديم العلاج، فيما يموت الأطفال من الجوع أو من أمراض يسهل علاجها في أي مكان آخر بالعالم.
الطفولة ليست هامشًا
تُظهر قصص نور، عزمي، معتصم وبيسان، أن الأطفال في غزة ليسوا مجرد أرقام في تقارير المنظمات، بل بشر يعيشون التفاصيل الأكثر قسوة في الحرب. في كل لحظة، يُولد طفل في غزة ليجد نفسه بين صراخ القنابل، وحصار الغذاء، وسؤال لا إجابة له: لماذا نُعاقب لأننا وُلدنا هنا؟
وإن الطفولة المسروقة في غزة ليست قدَرًا، بل جريمة مستمرة يشترك فيها الصمت الدولي، والتواطؤ الإقليمي، ويد الاحتلال. صرخات الأطفال يجب ألا تُدفن تحت الأنقاض. آن أوان أن يتوقّف العالم عن عدّ الجثث، ويبدأ في حماية الحياة.