تحليلات واراء

مواقف النظام المصري من غزة.. التاريخ لن يرحم

بحكم التاريخ والجغرافيا، كان يفترض أن تلعب مصر التي ظلت لعقود توصف بأنها “الشقيقة الكبرى” والبوابة العربية التي لا تغلق في وجه غزة الجريحة، الدور الأبرز في مناصرة القطاع في خضم ما يتعرض له من حرب إبادة جماعية إسرائيلية لكن التاريخ كان شاهدا على عكس كذلك.

إذ أن الحرب الراهنة كشفت ما يصفه كثيرون بأنه أسوأ مواقف مصر الرسمية تجاه القضية الفلسطينية، وسط اتهامات مباشرة للقاهرة بالمشاركة في خنق غزة، وتغليب مصالحها الأمنية والاقتصادية على حساب دماء الفلسطينيين وحقوقهم التاريخية.

خذلان تاريخي

لم تعد التصريحات المكررة عن «التزام مصر التاريخي بالقضية الفلسطينية» قادرة على إخفاء الواقع القاسي.

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية، أغلقت مصر معبر رفح معظم الوقت، ولم تسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلا بشروط وإجراءات معقدة، بينما يموت الآلاف في غزة تحت القصف، ويواجه أكثر من مليوني إنسان خطر المجاعة والأوبئة.

السياسي المصري والبرلماني السابق أحمد الطنطاوي عبّر بصراحة عن هذا الموقف، قائلاً إن مصر كان ينبغي أن تكون طرفاً فاعلاً في مواجهة ما يحدث، لا مجرد وسيط.

وأضاف: «لو كنت رئيساً لمصر، لما سمحت لإسرائيل بالتمادي بهذا الشكل، ولفتحت معبر رفح فوراً، ولم أكن لأمنع أي شكل من أشكال التضامن مع غزة».

كلمات الطنطاوي تعبّر عن مشاعر ملايين المصريين والعرب، الذين يرون أن مصر تخذل غزة في أكثر اللحظات دموية في تاريخها الحديث.

بل إن الطنطاوي ذهب أبعد من ذلك قائلاً إن دولة الاحتلال ما كانت لتجرؤ على استهداف متضامنين دوليين يحاولون كسر الحصار لو أن مصر وقفت موقفاً قوياً إلى جانبهم.

بين التصريحات والأفعال

التناقض الفاضح بين تصريحات المسؤولين المصريين وأفعالهم أضحى حديث الصحافة العربية والدولية. رضا فهمي، رئيس لجنة الأمن القومي بمجلس الشورى المصري سابقاً، اعتبر أن مواقف النظام المصري بشأن غزة تتسم بازدواجية شديدة.

وقال بهذا الصدد «هناك تناقض كبير بين مواقف وتصريحات المسؤولين المصريين في ما يتعلق بالحرب على غزة، التي كشفت موقف وموقع النظام الحالي من القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية، ودوره في حماية أمن إسرائيل بالمقام الأول وليس الأمن القومي المصري».

ويضيف فهمي أن «الأهم ليس التصريحات، بل الأفعال»، موضحاً أن مصر لم تقم حتى بالحد الأدنى من واجباتها بفتح معبر رفح لإدخال المساعدات واستقبال الجرحى، ولم تتخذ أي رد فعل حتى بعد الضربات الإسرائيلية التي طالت حدودها.

وقد جاء الرد المصري دائماً متأخراً، أو جاء بصيغة بيانات باهتة تؤكد «أهمية التهدئة» و«ضرورة تجنب التصعيد»، بينما تواصل إسرائيل قصف المدنيين بلا هوادة، وتحكم الحصار على القطاع برا وبحرا وجوا، بمعاونة الجانب المصري في إغلاق المعبر، بحسب اتهامات واسعة.

وظيفة أمنية لا قومية

يرى المعارض المصري والبرلماني السابق الدكتور محمد عماد صابر أن ما يجري ليس مفاجئاً، فهو يرى أن النظام المصري يؤدي دوراً وظيفياً لصالح المشروع الأميركي والغربي في المنطقة.

يقول صابر: «المعروف أن النظام المصري يلعب دوراً وظيفياً لصالح المشروع الأميركي والغربي في المنطقة؛ وبالتالي فإن مؤسساته المنتقاة بعناية، سواء العسكرية أو الأمنية أو التشريعية، تلعب دوراً وظيفياً داخلياً يخدم الدور الوظيفي للنظام خارجياً.»

ويضيف أن ما يحدث في غزة يعكس توجهات النظام المتخاذل، الباحث عن الأموال والصفقات على حساب القضية الفلسطينية. ويؤكد أن الحديث عن الأمن القومي المصري والخطوط الحمراء ليس سوى للاستهلاك الإعلامي.

ويتابع صابر بحسم: «النظام المصري لن يفاجئ نفسه بأنه نظام آخر، ولن يفاجئنا بأنه أصبح وطنياً أميناً على حدوده ومصالح شعبه والقضية الفلسطينية في يوم وليلة. لن يتغير، لأن مصالح النظام أقوى وأهم لدى الطغمة الحاكمة من أي قضايا وطنية أو عربية.»

المكافآت المالية.. والخذلان السياسي

منذ بداية الحرب على غزة، ربط كثيرون بين موقف القاهرة المتحفظ من الحرب، وبين التدفقات المالية والقروض الضخمة التي حصلت عليها مصر.

فقد أبرمت القاهرة اتفاقات مع صندوق النقد الدولي بقيمة تتجاوز 8 مليارات دولار، وأعلنت دول خليجية عن حزم مساعدات واستثمارات بعشرات المليارات لدعم الاقتصاد المصري المتعثر.

تزامن كل ذلك مع حرص النظام المصري على تهدئة الوضع في غزة، لا دعماً للفلسطينيين بل منعاً لتداعيات قد تربك الحسابات الأمنية في سيناء أو تغضب إسرائيل أو واشنطن.

وفي نظر كثيرين، بدا أن ثمن الدعم المالي هو ضبط الموقف المصري إزاء حرب الإبادة في غزة، وعدم السماح بخروج تظاهرات غاضبة أو إرسال مساعدات حقيقية بكميات تكسر الحصار الإسرائيلي.

ويتم ترجمة ذلك في سياسة الأولويات التي يتبناها النظام المصري، حيث أصبحت فلسطين، مجرد ورقة تفاوض في صفقات إقليمية أو وسيلة لتحسين صورته أمام الغرب، بينما أولوية النظام القصوى تبقى في تعزيز مصالحه الاقتصادية والأمنية حتى لو على حساب أشلاء أطفال غزة.

التاريخ لن يرحم

المأساة في غزة تحفر في ذاكرة الأجيال، لتكتب فصلاً لن يرحم التاريخ فيه أحداً. فمنذ الحرب وحتى اليوم، لم يخرج الموقف المصري عن دور الوسيط الحريص على تهدئة الأوضاع دون أي ضغط جاد على إسرائيل لوقف المجازر.

الأنكى أن القاهرة تبدو شريكاً صامتاً في حصار غزة، وهو حصار يقتل الفلسطينيين ببطء بالجوع والمرض والقهر.

سيذكر التاريخ أن مصر، التي كانت يوماً بوابة العروبة، أغلقت معبر رفح في وجه جرحى غزة، بينما فتحت أبوابها للقروض وصفقات الاستثمار. سيذكر التاريخ أن دماء الفلسطينيين سالت، ولم تتدفق المساعدات المصرية إلا شحيحة ومرهونة بحسابات السياسة والأمن.

والأخطر أن موقف مصر الرسمي منح دولة الاحتلال غطاء عربياً ضمنياً لاستكمال مشروعها الإبادي في غزة، في ظل غياب أي تهديد أو ردع عربي حقيقي. وهو ما سيجعل محاكمة المواقف الرسمية أمام ذاكرة الشعوب أكثر قسوة من أي محكمة قانونية.

في النهاية، لن يرحم التاريخ من تاجر بدماء الفلسطينيين، أو جعل حصار غزة ورقة للمساومات. ومهما حاولت القاهرة تبرير مواقفها الأمنية أو السياسية، سيظل وصم العار يلاحق من أغلق الحدود أمام الجرحى والجائعين، وترك غزة وحيدة تواجه الإبادة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى