عاصفة العزلة تضرب إسرائيل: أوروبا تراجع تحالفها مع دولة الإبادة الجماعية

تشهد دولة الاحتلال الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة تصاعداً غير مسبوق في الضغوط السياسية والدبلوماسية من جانب حلفائها الغربيين، خاصة في أوروبا، نتيجة مواصلة عدوانها الهمجي على قطاع غزة، وتعنّت حكومة بنيامين نتنياهو إزاء وقف الحرب والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى السكان المحاصرين.
وبعد أكثر من عام ونصف على بدء هذه الحرب، بدأت الدول الأوروبية في إعادة النظر في شراكاتها الاستراتيجية مع تل أبيب، في مؤشر واضح على انهيار الدعم الدولي الذي طالما حظيت به إسرائيل منذ نشأتها.
من التعاطف إلى القطيعة: كيف انقلبت المعادلة؟
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حشدت دولة الاحتلال تأييدا دولياً واسعاً بعد عملية “طوفان الأقصى” لفصائل المقاومة الفلسطينية التي استهدفت المستوطنات المحاذية لغزة.
لكن هذا الدعم لم يلبث أن تبخّر أمام مشهد الإبادة الجماعية الممنهجة التي انتهجتها حكومة نتنياهو ضد أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع.
ومع كل مجزرة جديدة، وكل قصف يستهدف المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، باتت الحكومات الغربية في موقف حرج أمام شعوبها ومنظماتها الحقوقية، ما دفع العديد منها إلى إعادة تقييم علاقاتها مع دولة الاحتلال.
ووفقاً لموقع Axios الأمريكي، فإن “نتنياهو فقد العديد من أصدقائه المتبقين في الغرب، خارج الولايات المتحدة، بعد أن أنهى وقف إطلاق النار في مارس وعرقل جميع إمدادات الغذاء والماء والدواء إلى غزة”.
ووصف الموقع الوضع الحالي بأنه “تسونامي دبلوماسي”، يعصف بشرعية دولة الاحتلال الدولية التي كانت شبه مطلقة في دوائر القرار الغربية، لا سيما في الاتحاد الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي… بداية التحول النوعي
أكبر ضربة تلقتها دولة الاحتلال جاءت من أوروبا، حيث أيد 17 وزير خارجية من أصل 27 في الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي مقترحاً هولندياً بمراجعة الاتفاقية السياسية والتجارية بين الاتحاد ودولة الاحتلال.
هذا التحرك لم يكن مجرد تعبير عن السخط، بل خطوة عملية نحو تجميد الامتيازات التي تتمتع بها دولة الاحتلال في إطار التعاون الأوروبي.
وقد تزامن ذلك مع قرار بريطانيا — الحليف التاريخي لإسرائيل — تعليق مفاوضات التجارة الحرة وفرض عقوبات جديدة على مستوطنين متورطين في انتهاكات بالضفة الغربية.
أما فرنسا، فتمضي في اتجاه استضافة مؤتمر دولي بالتعاون مع السعودية للدفع نحو حل الدولتين، مع نية معلنة للاعتراف بدولة فلسطينية، وهو ما كانت قد فعلته إسبانيا والنرويج وأيرلندا بالفعل.
بين المقاطعة والتجريم
تتعدى مؤشرات العزلة الحالية البعد السياسي، لتشمل أبعاداً رمزية وثقافية أيضاً. رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز لم يكتفِ بالاعتراف بفلسطين، بل وصف دولة الاحتلال بأنها “دولة إبادة جماعية”، ودعا إلى حظر مشاركتها في مسابقة الأغنية الأوروبية.
وفي خطوة غير مسبوقة، يواجه الاحتلال تهديداً متنامياً بالتجريم السياسي والشعبي، حتى داخل المؤسسات التي طالما ساندته.
رد الفعل الإسرائيلي لم يخرج عن النمط التقليدي، إذ لجأ نتنياهو إلى اتهام الدول المنتقدة بـ”معاداة السامية”، وادعى أنها ترضخ لضغوط الأقليات المسلمة.
لكن هذا الخطاب بات متهالكاً في مواجهة صور الأطفال تحت الأنقاض في رفح وغزة، ومع ازدياد عدد الدول التي تفتح تحقيقات في جرائم الحرب المرتكبة، كما يفعل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
الأزمة الإنسانية كمحرّك للعزلة
يرى مراقبون أن أحد أهم العوامل التي عجّلت بتراجع التأييد الدولي لإسرائيل هو التدهور الكارثي للوضع الإنساني في غزة. فبعد أن أوقف نتنياهو جميع المساعدات الإنسانية منذ مارس، انهار الوضع الصحي والغذائي بشكل دراماتيكي.
ووفقاً لمسؤول إسرائيلي نقل عنه موقع Axios، فإن وزير الخارجية الإسرائيلي السابق جدعون ساعر كان قد حذر نتنياهو بأن “تعليق المساعدات سوف يبعد حلفاء دولة الاحتلال”.
وقد تحقق هذا السيناريو بالكامل، لتجد تل أبيب نفسها مضطرة للموافقة على دخول بعض الشحنات تحت ضغط دولي كثيف.
بين الخطة التوسعية والعزلة الكاملة
ومع تزايد الدعوات لوقف الحرب، يبدو أن نتنياهو يسير في الاتجاه المعاكس، عبر إطلاق عمليات عسكرية جديدة تهدف لإعادة احتلال غزة بالكامل، وفرض ما يسميه بـ”الهجرة الطوعية” للفلسطينيين إلى خارج القطاع.
هذه الخطة، التي تقوم فعلياً على تهجير جماعي وتدمير شامل للمدن والبنية التحتية، تهدد بمفاقمة العزلة الدولية أكثر فأكثر.
بل إن إدارة ترامب — والتي لطالما كانت داعمة بشكل مطلق لتل أبيب — أبدت تحفظاتها على التصعيد الأخير، وفق ما أفاد الموقع الأمريكي.
ويبدو أن تل أبيب لم تعد تملك سوى دعم جزئي من الولايات المتحدة، وخصوصاً مع الانقسام الحاد داخل الكونغرس الأمريكي ذاته حول استمرار التمويل العسكري غير المشروط لإسرائيل.
وتشير جميع المعطيات إلى أن دولة الاحتلال تواجه لحظة مفصلية في علاقاتها الخارجية. فالصورة التي عملت لسنوات على ترسيخها كـ”دولة ديمقراطية في محيط عدائي” باتت غير قابلة للتصديق.
فقد تحولت إلى رمز عالمي للقمع والوحشية، وأصبح من الصعب على أي دولة تدعي احترام القانون الدولي أن تواصل شراكتها معها دون أن تلطخ سجلها السياسي والأخلاقي.
في ظل هذه التطورات، قد تكون الموجة الأوروبية الحالية بداية مرحلة جديدة من توازنات القوى في الشرق الأوسط، وربما تمثل فرصة حقيقية لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية على مستوى العلاقات الدولية، بعد عقود من التهميش والخذلان.
والكرة الآن في ملعب الحكومات العربية والمجتمع الدولي لتوظيف هذه العزلة المتنامية، والضغط من أجل وقف العدوان ورفع الحصار ومحاسبة الجناة. فإسرائيل لم تعد فوق القانون، ومشروعها الاستعماري في فلسطين بات محاصراً أخلاقياً وسياسياً كما لم يحدث من قبل.