تحليلات واراء

التاريخ يكتب: دور مشين لبعض مخاتير العائلات والعشائر في غزة

في خضم حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ نحو 21 شهرا، شهدت الساحة الفلسطينية في غزة انقسامات بدت فيها أدوار بعض المخاتير من العائلات والعشائر بعيدة كل البعد عن الواجب الوطني والأخلاقي الذي يفترض أن يتحلوا به، خصوصًا في هذه الظروف القاسية التي تتطلب تضافر الجهود وتوحيد الصفوف.

هذا التحليل يرصد بجرأة الدور المشين الذي مارسه بعض المخاتير، الذين تخلوا عن مسؤولياتهم الوطنية، وتحولوا إلى أدوات في يد الاحتلال، أو على أقل تقدير، إلى مبررين أو مساهمين في عمليات سرقة ونهب قوافل المساعدات، مما أفقدها الكثير من قيمتها الإنسانية والأخلاقية.

في المقابل، يبرز في الميدان وجوهًا وطنية مشرقة لمخاتير وعائلات عشائرية في غزة أصروا على الدفاع عن شرفهم ودورهم في حماية شعبهم، وضربوا نموذجًا نادرًا من الوطنية الحقيقية وسط أجواء الفوضى.

مخاتير تخلوا عن دورهم.. من الحامي إلى المتواطئ

المختار هو شخصية تقليدية ذات نفوذ مجتمعي في العشائر والعائلات الفلسطينية، مفترض فيه أن يكون رأس حربة للحفاظ على الأمن والاستقرار، ومنسقًا بين العائلة والجهات الرسمية، بل وحارسًا على المصالح الوطنية والأخلاقية.

لكن ما حدث في غزة خلال الحرب الحالية، أن بعض هؤلاء المخاتير خانوا هذه الثقة، وتخلوا عن واجباتهم، متحولين إلى غطاء قانوني أو اجتماعي لأفراد من عائلاتهم تورطوا بشكل فاضح في سرقة ونهب قوافل المساعدات الإنسانية.

تجمع تقارير وشهادات عدة تفيد بأن بعض المخاتير لم يكتفوا بالصمت حيال هذه الممارسات، بل سهلوا مرور الفاسدين، أو حتى شاركوا في تبرير هذه الانتهاكات، ما أدى إلى تفاقم معاناة السكان المحتاجين.

وهذا التواطؤ أصبح أداة من أدوات الاحتلال في تكريس معاناة أهل غزة، خصوصًا وأن قوافل المساعدات هي شريان حياة ضروري لإنقاذ حياة ملايين المدنيين وسط حصار خانق.

علاوة على ذلك، أبدى بعض المخاتير مواقف سياسية مشبوهة تنسجم بشكل مباشر مع ماكينة الدعاية الإسرائيلية، التي تحاول تصوير المقاومة الفلسطينية على أنها السبب في كل ما يحدث من معاناة، وتدعو إلى تجزئة الصف الفلسطيني وتفتيته من الداخل.

هذا الأمر كان بمثابة تآمر خفي على القضية الوطنية، وأضرّ بقضية شعب بأكمله، وفتح المجال لنشر الخوف والشكوك بين المواطنين.

خلفيات ودوافع التواطؤ

يمكن تفسير هذا الانحراف الأخلاقي والتواطؤ من عدة جوانب، منها الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها بعض العائلات، والرغبة في الاستفادة المادية على حساب المصلحة الوطنية، إضافة إلى الخوف من السلطة أو التهديدات الأمنية التي فرضها الاحتلال وميليشياته المحلية.

تلك الدوافع للأسف استغلتها أجهزة الاحتلال وعملاؤها لتجنيد بعض الأفراد والمخاتير وتحويلهم إلى أدوات تقوض مقاومة الشعب الفلسطيني من الداخل.

وما يزيد من حجم هذه الأزمة هو غياب الرقابة المجتمعية الحقيقية وغياب المحاسبة في كثير من الأحيان، الأمر الذي يسمح باستمرار مثل هذه الممارسات الفاسدة.

أبطال في الظل

في مقابل هذه الظاهرة السلبية، برزت مواقف وطنية مشرقة لمجموعة من المخاتير وعائلات وعشائر فلسطينية في غزة، رفضوا الانجرار وراء الفساد والتواطؤ، وقرروا المضي قدما في دورهم التقليدي والحيوي كحماة للشرف الوطني.

كثير من هؤلاء المخاتير بادروا إلى تشكيل لجان شعبية مستقلة لحماية قوافل المساعدات الإنسانية، حيث عملوا على تنسيق الجهود مع الجهات الرسمية وأجهزة الأمن الفلسطينية لمنع سرقة ونهب المساعدات، وضمان وصولها إلى مستحقيها الحقيقيين من المدنيين الفقراء والمحتاجين.

كما عبر عدد من هؤلاء المخاتير عن موقف شجاع وصريح بتبرؤهم من بعض أفراد عائلاتهم بعد انكشاف تورطهم في أعمال تخريبية أو تعاون مع الاحتلال، مؤكدين أن المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وأن أي عمل يخالف هذه القاعدة لن يتم السكوت عليه مهما كان المتورط.

أثر الانقسام بين المخاتير على المجتمع الفلسطيني

تسبب التباين في أدوار المخاتير إلى أزمات اجتماعية متشابكة في غزة، بحيث أصبح المواطن في حيرة من أمره، ولا يثق بالمختار الذي ربما يجهز لمصالح شخصية أو محسوبية.

هذا الانقسام يعزز من حالة الفوضى التي يستهدف الاحتلال تعزيزها على الدوام، ويساعد على تقويض الوحدة الوطنية التي تعتبر العمود الفقري في مواجهة الاحتلال والحصار. وإن استمرار هذا الواقع يهدد النسيج المجتمعي الفلسطيني، ويعوق الجهود المبذولة لإنهاء الأزمة الإنسانية والسياسية.

ويؤكد مراقبون أنه لمعالجة هذه الظاهرة السلبية، لا بد من ضرورة تفعيل آليات المحاسبة الداخلية للمختارين وعائلاتهم، وفرض رقابة مجتمعية صارمة، إلى جانب تعزيز الشفافية في آليات توزيع المساعدات، مما يحول دون استغلالها للابتزاز أو السرقة.

كما ينبغي تعزيز دور المؤسسات الوطنية المستقلة، وإشراك المخاتير الوطنيين الذين أظهروا مواقف مشرفة في التنسيق مع الجهات الرسمية والمجتمع المدني للحفاظ على الأمن الاجتماعي وضمان توزيع عادل للمساعدات.

وفي المحصلة، فإن مواجهة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتم إلا بوحدة الصف الفلسطيني، ورفض كل أشكال التواطؤ والتعاون مع الاحتلال، مع الإيمان بأن الحفاظ على النسيج الاجتماعي هو من أهم أسلحة الشعب الفلسطيني في معركته من أجل الحرية والكرامة.

وعليه فإن ما يشهده قطاع غزة اليوم من تباين في أدوار المخاتير والعشائر، بين من خانوا مسؤولياتهم الوطنية وأصبحوا أدوات تدميرية، وبين من تمسكوا بشرفهم وكرامتهم، هو مرآة مصغرة لحالة الشعب الفلسطيني عامة.

والتصدي لهذه الظاهرة المشينة هو أمر ملح وضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، للحفاظ على النسيج الوطني، ولتأمين مستقبل أفضل لأجيال قادمة ترفض الذل والاستسلام، وتسعى للحياة الحرة الكريمة بعيدا عن الاحتلال والمهانة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى