معالجات اخبارية

أزمة السيولة في غزة وتكدس الشيقل في الضفة.. دور خبيث لسلطة النقد

وسط الانهيار الاقتصادي الكامل في قطاع غزة بسبب الحرب والحصار، تبرز أزمة السيولة كإحدى الأزمات الأكثر فتكًا بالحياة اليومية، حيث يعاني السكان من غياب النقد في ظل ارتفاع الأسعار وفقدان مصادر الدخل.

في المقابل، تشهد مدن الضفة الغربية حالة معاكسة تمامًا: تكدّس عملة الشيقل الإسرائيلي داخل البنوك ومحال الصرافة، وركود في حركة النقد وتباطؤ في عمليات الإيداع والتحويل.

هذا التناقض الصارخ في واقع السيولة النقدية بين شطري الوطن ليس محض صدفة، بل يُسلّط الضوء على دور سلطة النقد الفلسطينية في رام الله، التي تحوّلت من مؤسسة مالية وطنية يفترض أن تعمل على توحيد السوق، إلى أداة سلطوية تشارك فعليًا في تعميق الحصار الاقتصادي على غزة، وخنق سكانه من بوابة التحكم بالتدفقات النقدية.

غزة تختنق ماليًا

في قطاع غزة، يواجه المواطنون صعوبات شديدة في الحصول على النقود، خصوصًا فئات الموظفين والعمال الذين باتوا عاجزين عن سحب مستحقاتهم من البنوك، وسط محدودية ضخ السيولة من قبل سلطة النقد.

وقد وصل الأمر إلى أن بعض فروع البنوك تغلق أبوابها لساعات أو تفرض سقوفًا منخفضة جدًا للسحب النقدي، في ظل طلب هائل على الشيقل والدولار لشراء الاحتياجات الأساسية.

وبحسب تجار وأصحاب محال تجزئة في غزة، فإن بعض المعاملات التجارية يتم رفضها يوميًا بسبب شح العملة، مما اضطر الناس إلى اللجوء لطرق تبادل بدائية أو قبول الدفع المؤجل، وهو ما يزيد من تعقيد الوضع المعيشي.

وتفيد مصادر مصرفية داخل القطاع بأن سلطة النقد الفلسطينية لم تُرسل الكميات الكافية من العملة إلى غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي، رغم وجود حاجة واضحة لتعويض الانهيار المالي وضخ السيولة للناس.

ويذهب كثيرون إلى اعتبار ذلك سياسة ممنهجة لخلق أزمة مفتعلة تخدم أهدافًا سياسية، على حساب الكارثة الإنسانية القائمة.

الضفة الغربية… فائض نقدي معطل

في المقابل، تعاني بنوك ومحال صرافة في الضفة الغربية من فائض عملة الشيقل، حيث يرفض بنك إسرائيل استقبال المزيد من العملات الفائضة، مما أوقع البنوك في أزمة تخزين وتكدس. وقد أدى ذلك إلى تراجع التحويلات إلى غزة، بحجة أن البنوك لا يمكنها تصريف الشيقل في ظل هذا التكدس.

الأزمة أثّرت على حركة الأسواق المحلية، إذ باتت بعض البنوك تتردد في قبول الإيداعات الكبيرة، فيما تشكو الشركات من صعوبة تصريف السيولة.

ومع ذلك، لا تُتخذ أي خطوات جادة لتوجيه هذا الفائض لدعم غزة، ما يطرح تساؤلات جدية حول دور سلطة النقد في تنظيم العلاقة الاقتصادية بين الضفة وغزة.

اتهامات صريحة: سلطة النقد تتواطأ في الحصار

خبراء اقتصاديون ومؤسسات مالية مستقلة وجهوا اتهامات مباشرة لسلطة النقد الفلسطينية بأنها تمارس سياسة تمييزية ضد غزة، عبر التحكم بتدفق العملة والتضييق على النظام المصرفي في القطاع، خاصة في ظل غياب أي إطار رقابي مستقل لمحاسبة قراراتها.

ويشير اقتصاديون إلى أن سلطة النقد لم تتحرك لتفعيل نظام نقدي بديل في غزة خلال الحرب، ولم تقدم أي حلول عاجلة لمعالجة غياب السيولة، بل تعمدت تقييد التحويلات البنكية، والتأخر في اعتماد آليات صرف الرواتب والمساعدات.

وقال أحد مديري البنوك في غزة، طالبًا عدم الكشف عن هويته: “نحن نتلقى أوامر مشددة من سلطة النقد بعدم زيادة الكميات النقدية في غزة، بحجة الحفاظ على التوازن المالي… لكن الواقع أن هناك رغبة سياسية في خنق الاقتصاد الغزي وربطه بمواقف السلطة في رام الله”.

أداة في يد الاحتلال

بعض المحللين يربطون بين سلوك سلطة النقد وسياق سياسي أوسع يتعلق بخطة الاحتلال لتفكيك غزة اقتصاديًا بعد ضربها عسكريًا، تمهيدًا لإعادة هندستها ديمغرافيًا وسياسيًا.

فالتحكم بالسيولة يُستخدم كأداة ناعمة لاستنزاف ما تبقى من الاقتصاد المحلي، ودفع السكان نحو خيارات مستحيلة: إما الهجرة القسرية أو الاستسلام الاقتصادي.

وفي هذا الإطار، تبدو سلطة النقد أقرب إلى وكيل مالي يعمل ضمن هذا المخطط، بدلًا من أن تكون أداة وطنية لتحصين الجبهة الداخلية.

ويُذكر أن سلطة النقد لم تُصدر أي بيان يوضح موقفها من أزمة السيولة، ولم تقدم تفسيرًا لأسباب التناقض الصارخ بين واقع النقد في غزة والضفة، ما يعزز الشكوك حول تورطها في استراتيجية “الضغط الاقتصادي”.

دعوات لمحاسبة السلطة المالية

في ظل تصاعد الغضب الشعبي، طالبت مؤسسات حقوقية ومجموعات اقتصادية بفتح تحقيق مستقل حول أداء سلطة النقد، وتشكيل لجنة محايدة لمراجعة سياساتها في إدارة العلاقة بين الضفة وغزة.

كما دعت الحراكات المجتمعية في غزة إلى إنشاء كيان نقدي مستقل قادر على إدارة الشؤون المالية للقطاع بعيدًا عن سلطات رام الله، بما يضمن حماية الحقوق الاقتصادية للسكان، ويضع حدًا لاستغلال المال كسلاح سياسي.

وفي المحصلة فإن أزمة السيولة في غزة ليست مجرد خلل فني أو ظرف طارئ، بل هي عنوان واضح لأزمة سياسية-اقتصادية أعمق، تُدار من غرف مغلقة تُفضّل العقاب الجماعي على الوحدة الوطنية. وما لم تُكسر هذه المعادلة الظالمة، سيبقى المواطن الغزي رهينة بيد سلطة نقد قررت أن تصير جزءًا من أدوات الإخضاع لا أدوات الإنقاذ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى