العجز العربي عن نصرة غزة: مأساة محاصرة بتواطؤ سياسي

تتواصل الحرب على غزة، والمجزرة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في القطاع تكشف بوضوح فداحة العجز العربي، الذي كان من المفترض أن يكون من أقوى الأصوات وأكثرها تأثيرًا في وقف معاناة المدنيين.
ففي الوقت الذي تتخذ فيه بعض القوى الدولية، وبخاصة في الاتحاد الأوروبي، خطوات حاسمة على صعيد مراجعة اتفاقيات الشراكة مع إسرائيل، فإن الغياب شبه التام لأي تحرك عربي عملي يدق ناقوس الخطر ويثير تساؤلات عميقة حول حجم الأدوات التي تملكها الدول العربية وقدرتها على تغيير المعادلة على الأرض.
لا يمكن فهم هذا العجز بمعزل عن المشهد السياسي المعقد الذي يطبع العلاقات بين الدول العربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تقف المصالح الاستراتيجية والاقتصادية فوق أي اعتبار لقضية فلسطين أو التزام أخلاقي وإنساني تجاه شعب غزة الذي يئن تحت وطأة الحصار والدمار.
إهمال الأوراق العربية
تملك الدول العربية، خاصة تلك التي تربطها علاقات دبلوماسية وتجارية مع دولة الاحتلال، مجموعة من الأوراق الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تشكل أداة ضغط حقيقية وفعالة لوقف العدوان.
فبعض هذه الدول، مثل الإمارات والمغرب ومصر والأردن، لديها اتفاقيات تعاون تشمل الجوانب الأمنية والاقتصادية والتجارية التي لو تم استغلالها بشكل جدي في سياق الضغط على دولة الاحتلال، لكان بالإمكان تحقيق خفض في حدة الصراع وربما إجبارها على وقف حملتها العسكرية الوحشية.
لكن الواقع يعكس غياب إرادة سياسية حقيقية لتفعيل هذه الأوراق. الجامعة العربية، التي يفترض أن تكون الإطار الإقليمي الجامع للقضايا العربية، لم تصدر أي قرارات تنفيذية أو إجراءات دبلوماسية فعلية تجبر إسرائيل على الانصياع لوقف العدوان.
وقد اكتفت، في أحسن الأحوال، بإصدار بيانات تخلو من قوة التنفيذ والضغط، فضلاً عن عدم استدعاء سفراء أو فرض عقوبات دبلوماسية وتجارية.
أما الدول ذات النفوذ والعلاقات المباشرة مع دولة الاحتلال، فواصلت علاقاتها بكل أشكالها دون أي تجميد أو تهديد واضح يعبّر عن غضب حقيقي تجاه المجازر المتواصلة. هذا الصمت المشوب بالمصالح يطرح تساؤلات حول مدى استعداد هذه الحكومات فعلاً لتحريك أدواتها السياسية والاقتصادية لمساندة غزة.
تواطؤ أنظمة التطبيع
ما يزيد من تعقيد المشهد هو ما يمكن وصفه بتواطؤ أنظمة التطبيع مع دولة الاحتلال في استمرار الحرب، ليس فقط من خلال الصمت، بل عبر الحفاظ على قنوات التعاون المفتوحة والمتطورة التي تُغذي الموقف الإسرائيلي وتُسهم في توفير الدعم اللوجستي والسياسي له.
الخطوات الأوروبية، رغم تأخرها، تُعد سابقة سياسية مهمة يمكن أن تفتح الباب أمام مراجعات أوسع لاتفاقيات السلام والتعاون مع دولة الاحتلال، على اعتبار أن استمرارية الحرب تمثل خرقًا واضحًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
لكن على النقيض، فإن الدول العربية التي لها اتفاقيات سلام أو تطبيع مع إسرائيل لا تبدي حتى الآن أي استعداد ملموس لإعادة تقييم هذه العلاقات أو استخدامها كورقة ضغط.
وبحسب مراقبين فإن هنالك استغلالا واضحا لهذه العلاقات من قِبل الحكومات التي ترى أن الحفاظ على هذه الشراكات أساسي لأمنها واستقرارها، أو لاعتبارات اقتصادية ضخمة، أو خوف من التأثيرات السلبية على علاقتها بالولايات المتحدة، التي تلعب دورًا مركزيًا في دعم دولة الاحتلال.
وهذه الاعتبارات تجعل من الملف الفلسطيني عبئًا ثقيلاً، يُفضّل كثيرون في المنطقة تجاهله أو تقليله من أهميته، وهو ما يفسر عدم تحركهم بشكل أكثر حزماً.
غزة: مأساة إنسانية على وقع الغياب العربي
تتفاقم المأساة الإنسانية في غزة مع استمرار الحصار الإسرائيلي الذي يحد من وصول الغذاء والدواء والمواد الأساسية، في وقت تُوثق فيه المجازر التي تستهدف المدنيين، لا سيما الأطفال والنساء، في غارات تتزايد قسوتها يومًا بعد يوم. هذا الواقع المرير لا يحظى بأي وقفة عربية حقيقية تضغط لوقف نزيف الدم أو تخفيف وطأة المعاناة.
يبرز هذا العجز أيضاً في غياب المبادرات العربية الجماعية التي يمكن أن توحد الموقف وتفرض تغييرًا، سواء عبر تفعيل الجامعة العربية أو عبر تنسيق فعال مع منظمات إسلامية ودولية.
فحتى في مواقف الاستنكار، هناك ضعف واضح في تبني مواقف حاسمة، وهو ما يؤكده غياب أي خطوات عملية مثل استدعاء السفراء بشكل جماعي أو تعليق الاتفاقيات، ما يشير إلى انقسام عربي بين المطبّع والمتردد والمتفرج.
ماذا لو تحرك العالم العربي؟
لو أن الدول العربية، وخاصة تلك التي لها علاقات رسمية مع تل أبيب، اتخذت قرارًا جماعيًا بقطع هذه العلاقات حتى توقف دولة الاحتلال عدوانها، أو على الأقل أعادت النظر في هذه الاتفاقيات، لكان ذلك قد أحدث فرقًا كبيرًا في مسار الأحداث.
وكان من الممكن أيضاً لمنظمة التعاون الإسلامي أن تلعب دورًا أكثر فاعلية، عبر تبني مواقف حاسمة تجبر الولايات المتحدة على مراجعة دعمها المطلق لإسرائيل.
لكن التحدي الأكبر يكمن في الداخل العربي ذاته، حيث تعاني العديد من الدول من أزمات سياسية وحكومية، وهشاشة في الأنظمة، وعدم تمثيل حقيقي للإرادة الشعبية التي ترفض هذا الصمت.
لذلك فإن أي دور عربي فعال يمر أولًا عبر إصلاح الداخل وبناء منظومة حكم تعبر عن تطلعات شعوبها، وتكون قادرة على اتخاذ مواقف جريئة تجاه قضايا مصيرية مثل القضية الفلسطينية.
من الموقف إلى الفعل
تظل مأساة غزة صورة صارخة عن مدى العجز العربي في توظيف أوراق القوة المتاحة لوقف حرب إبادة تستهدف المدنيين الأبرياء. هذا العجز ليس نتيجة نقص في الإمكانيات أو الأدوات، بل هو انعكاس لحالة سياسية معقدة تتسم بالتناقض بين المصالح والحساسيات الإقليمية والدولية.
الدول العربية، التي يمكن أن تشكل رافعة ضغط فعالة على دولة الاحتلال، تختار التردد أو الانصياع لضغوط دولية، وتفضل الحفاظ على علاقات التطبيع على حساب دماء الأطفال والنساء في غزة.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد بدأ يتحرك بمواقف أكثر حزماً، فإن على العرب إعادة النظر في حساباتهم، والتحرك فورًا نحو استخدام كل ما لديهم من قوة دبلوماسية وسياسية واقتصادية لإنقاذ غزة، ووقف هذا العدوان الوحشي.
إلا أن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وقدرة على تجاوز الخلافات الداخلية والمصالح الخاصة، وإعادة القضية الفلسطينية إلى قلب أولويات العمل العربي الجماعي، بما يعكس قيم التضامن والكرامة الإنسانية التي ظلّ الشعب الفلسطيني ضحيتها الكبرى.