تحليلات واراء

مصر تضخ مليارات الدولارات في خزائن الاحتلال بينما غزة تنزف

في خضم واحدة من أكثر الحروب دموية على غزة، وبينما يعيش الفلسطينيون تحت القصف والحصار والمجاعة، تتدفق مليارات الدولارات من القاهرة إلى تل أبيب في إطار صفقات غاز طويلة الأجل، تضمن لدولة الاحتلال تدفقاً ثابتاً من الأموال حتى عام 2040.

هذه الصفقات لا تمثل مجرد تبادل تجاري، بل تحولت – وفق المؤشرات والتصريحات الإسرائيلية نفسها – إلى رافد مباشر لخزينة الاحتلال، يساهم في تمويل بنيته التحتية، وتعزيز اقتصاده، وربما تمويل آلته العسكرية التي تحصد أرواح المدنيين في القطاع.

مليارات تثري المعتدي

على مدى السنوات الماضية، أبرمت مصر اتفاقات متعددة لاستيراد الغاز من دولة الاحتلال، كان أولها في 2018، عندما وُقّعت صفقة بقيمة 15 مليار دولار.

حينها، لم يخفِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فرحته، واصفاً الاتفاق بـ”التاريخي” و”يوم العيد” لإسرائيل.

نتنياهو أوضح بجلاء أن الأموال المصرية ستدخل مباشرة إلى خزينة الدولة، وستُصرف على التعليم والصحة والرفاهية، بما يعزز “المواطنين الإسرائيليين” ويخدم اقتصادهم وأمنهم.

هذه اللغة لم تكن مجرد دعاية سياسية، بل إعلان صريح عن أن الصفقة تصب في مصلحة دولة الاحتلال الاقتصادية والاجتماعية، وتمنحها القدرة على توجيه مواردها الداخلية لمجالات أخرى، بما في ذلك الأمن والدفاع.

وفي ظل الظروف الحالية، يصبح السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف يمكن تبرير استمرار هذه التدفقات المالية بينما يشن الجيش الإسرائيلي حرب إبادة موثقة ضد سكان غزة؟

الصفقة الأكبر في التاريخ

القصة لم تتوقف عند حدود 2018. ففي بداية أغسطس 2025، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين عن صفقة جديدة وُصفت بأنها “الأكبر في تاريخ إسرائيل”، بقيمة 35 مليار دولار.

تصريحات كوهين جاءت صريحة: الصفقة لا تقتصر على الفوائد المالية، بل تمثل إنجازاً أمنياً وسياسياً واستراتيجياً، وتعزز مكانة دولة الاحتلال كقوة إقليمية في مجال الطاقة.

كوهين تحدث أيضاً عن أن هذه الأموال ستدر مليارات إضافية على خزينة الدولة، وتخلق فرص عمل، وتدعم قطاع الغاز بوصفه “رصيداً استراتيجياً” لإسرائيل.

هذا يعني أن كل دولار يُدفع في إطار هذه الاتفاقية سيُترجم مباشرة إلى قوة اقتصادية، وموارد مالية تسهم في سد العجز وتمويل الاحتياجات الداخلية، بما في ذلك الإنفاق العسكري الضخم الذي يتضاعف في أوقات الحرب.

فاتورة يدفعها المصريون

الصفقات الضخمة ليست مجرد أرقام في البيانات الرسمية. فهي تعني عملياً أن الحكومة المصرية ملتزمة بتحويل مليارات الدولارات إلى دولة الاحتلال على مدى سنوات، تحت طائلة الغرامات أو قطع الإمدادات في حال الإخلال بالعقود.

وتنعكس هذه الالتزامات المالية على المواطن المصري عبر ارتفاع أسعار الغاز للمنازل والمصانع، وزيادة تكلفة إنتاج الكهرباء، وارتفاع أسعار السلع والخدمات بسبب زيادة كلفة الطاقة.

كما أن الدولة ستضطر لتعويض هذه المدفوعات عبر زيادة الرسوم والضرائب، وتقليص الدعم، ما يضيف أعباء اقتصادية مباشرة على الأسر المصرية التي تعاني أصلاً من الغلاء وتراجع القدرة الشرائية.

توقيت مريب ورسائل خاطئة

من اللافت أن الصفقة الأحدث أُعلن عنها في أوج حرب غزة، في وقت تتعرض فيه دولة الاحتلال لعزلة شعبية واسعة على مستوى العالم، وتواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

في هذا التوقيت، تأتي القاهرة لتمنح دولة الاحتلال أكبر صفقة غاز في تاريخها، بما يشكل رسالة سياسية معاكسة تماماً لموجة التضامن مع الشعب الفلسطيني.

كما أن الصفقة تمنح دولة الاحتلال دعماً مالياً يخفف من الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب، ويتيح لها الاستمرار في سياساتها العدوانية دون القلق من تدهور مواردها.

ويطرح هذا الموقف تساؤلات حول أولويات السياسة المصرية، ومدى اتساقها مع الخطاب المعلن حول دعم القضية الفلسطينية.

الاحتلال المستفيد الأول

تجربة السنوات الماضية تؤكد أن دولة الاحتلال تعرف كيف توظف هذه الموارد لصالحها. فالأموال المتدفقة من صفقات الغاز مع مصر ليست مجرد أرباح لشركات خاصة، بل إيرادات سيادية تدخل الخزانة العامة، وتُستخدم في تمويل الخدمات والبنية التحتية، وكذلك في تعزيز قدرات الجيش والأجهزة الأمنية.

في ظل العجز الكبير الذي تعاني منه الميزانية الإسرائيلية نتيجة الإنفاق العسكري الهائل، تصبح هذه الصفقات بمثابة طوق نجاة اقتصادي، يمد تل أبيب بالأموال اللازمة لتغطية النفقات الطارئة والحفاظ على مستوى معيشي مرتفع للإسرائيليين، بينما يعيش قطاع غزة أسوأ كارثة إنسانية في تاريخه الحديث.

صورة قاتمة للعلاقات الاقتصادية

من الناحية الاقتصادية، قد تُبرر الحكومة المصرية هذه الصفقات باعتبارها جزءاً من استراتيجية لتأمين إمدادات الطاقة أو تحقيق مكاسب تجارية.

لكن الواقع يظهر أن دولة الاحتلال هي المستفيد الأكبر، وأن أي فوائد محتملة لمصر تأتي بثمن سياسي ومعنوي باهظ، يتمثل في تمويل مباشر لدولة تمارس عدواناً عسكرياً مستمراً على شعب شقيق.

هذا التناقض يضع العلاقات الاقتصادية بين القاهرة وتل أبيب تحت مجهر النقد، ليس فقط من جانب القوى الشعبية العربية، بل أيضاً من قبل منظمات حقوق الإنسان والجهات التي تراقب التزامات الدول تجاه القانون الدولي الإنساني.

وفي الوقت الذي تُزهق فيه أرواح آلاف الفلسطينيين في غزة، وتُدمَّر منازلهم ومستشفياتهم ومدارسهم، تضخ مصر مليارات الدولارات في خزائن الاحتلال عبر صفقات غاز طويلة الأجل.

هذه الأموال، باعتراف القادة الإسرائيليين، تُستخدم في تحسين حياة مواطنيهم، وتمويل اقتصادهم، وربما شراء الأسلحة التي تواصل حصد الأرواح في القطاع المحاصر.

والصفقات لا تعكس مجرد تقاطع مصالح اقتصادية، بل تكشف عن اختلال عميق في موازين الأولويات، حيث تتحول موارد المصريين إلى دعم مباشر لآلة الحرب الإسرائيلية، في لحظة تاريخية تستدعي مقاطعتها ومعاقبتها، لا مكافأتها بعقود بمليارات الدولارات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى