تحليلات واراء

الدور المصري في حرب غزة.. من الوسيط التقليدي إلى طرف في العدوان

منذ بداية العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، تصدرت القاهرة المشهد بوصفها الوسيط التقليدي في محاولات التهدئة وإدارة المفاوضات الرامية إلى تبادل الأسرى بين دولة الاحتلال وفصائل المقاومة.

لكن الواقع كشف أن الدور المصري لم يعد يحظى بصفة الوساطة الحيادية، بل بات في نظر شريحة واسعة من الفلسطينيين والمراقبين الدوليين مماثلًا لدور دولة الاحتلال في العدوان.

فمصر، بدلًا من أن تكون خط الدفاع التاريخي عن غزة، تحولت إلى طرف يشارك في حصارها وتجويعها، بل ويستغل مأساتها لتحقيق مكاسب مالية وسياسية.

الضغط لسحب سلاح المقاومة

واحدة من أكثر المحطات التي تفضح حقيقة الدور المصري كانت خلال الأشهر الأخيرة، حين دفعت القاهرة بشكل مستمر بمقترح يتضمن نزع سلاح المقاومة في غزة، كشرط مسبق لأي تسوية.

هذا المقترح لم يكن مجرد سوء تقدير سياسي، بل انسجام واضح مع المطالب الإسرائيلية والأمريكية، التي ترى في سلاح المقاومة العقبة الكبرى أمام “ترتيبات ما بعد الحرب”.

وقد كشف ذلك أن القاهرة لا تنظر لغزة بوصفها قضية وطنية عربية وإنسانية، بل باعتبارها ملفًا أمنيًا يجب تصفيته بما يرضي دولة الاحتلال.

التواطؤ في حرب الإبادة والحصار

مع اشتداد حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، بدا الموقف المصري أكثر وضوحًا: إغلاق معبر رفح لفترات طويلة، عرقلة دخول المساعدات الإنسانية، والمماطلة في إجلاء الجرحى والمصابين.

هذه الإجراءات أسهمت بشكل مباشر في تجويع السكان وحرمانهم من الدواء والغذاء، وهو ما يتقاطع مع أهداف الاحتلال الإسرائيلي.

لقد تحولت مصر، بفعل سياساتها، إلى شريك موضوعي في الحصار، تُمسك بورقة المعبر الحدودي كورقة ابتزاز، وتُسهم في خنق الحياة اليومية في غزة بدلًا من تخفيفها.

ابتزاز سكان غزة: مليارات مقابل المأساة

الأدهى أن النظام المصري لم يكتفِ بالتواطؤ الأمني، بل استغل الأزمة لتحقيق مكاسب مالية ضخمة.

فعمليات العبور عبر معبر رفح باتت تتم بشروط مهينة، حيث فُرضت رسوم باهظة على الفلسطينيين الراغبين في السفر أو العلاج، وصلت في بعض الحالات إلى آلاف الدولارات للفرد الواحد، فضلا عن مبالغ أكبر بأضعاف على قوافل المساعدات الإنسانية المحدودة.

هذا الابتزاز المنظم حوّل معاناة الغزيين إلى مصدر دخل بالمليارات للنظام المصري، في الوقت الذي يعاني فيه سكان القطاع من انهيار اقتصادي ومعيشي غير مسبوق.

إلى جانب ذلك، وظّفت القاهرة دورها “الوسيط” للحصول على منح وقروض دولية من الولايات المتحدة وأوروبا، مقابل استمرار التنسيق مع إسرائيل في إدارة حصار غزة، ما يجعل الدم الفلسطيني عملة سياسية واقتصادية بيد النظام.

وساطة محل شكوك عميقة

لطالما سوّقت القاهرة نفسها كـ “الوسيط النزيه” في ملف غزة، لكن مجريات العدوان الأخير عرّت هذه الرواية. فالمفاوضات التي رعتها مصر جاءت في كثير من الأحيان مطابقة لمطالب الاحتلال، سواء بوقف إطلاق النار دون رفع الحصار، أو بطرح صيغ غامضة لإدارة غزة تُقصي المقاومة وتُعيد السلطة الفلسطينية بشروط إسرائيلية.

هذا الانحياز الواضح أفقد الوساطة المصرية مصداقيتها، وجعلها في نظر المقاومة والفلسطينيين جزءًا من منظومة الضغط الدولية على غزة وليس رافعة لحقوقها.

والتاريخ يضع مصر في موقع استثنائي تجاه غزة؛ فهي الجار الوحيد غير المحتل، والشريك في الحدود والجغرافيا والمصير. لكن النظام المصري الحالي تخلّى عن هذه المسؤولية التاريخية والإنسانية، واختار أن يقف في الصف الإسرائيلي –الأمريكي.

فبدلًا من أن تكون القاهرة درعًا للعروبة وحصنًا للمقاومة، تحولت إلى طرف عدوان، ينسق في السر ويبتز في العلن. هذا التحول لم يكن انعكاسًا فقط لخيارات سياسية ظرفية، بل لنهج استراتيجي قائم على تثبيت شرعية النظام عبر رضا واشنطن وتل أبيب، حتى لو كان الثمن هو الدم الفلسطيني.

انعكاسات على صورة مصر الإقليمية

هذا الدور أثّر سلبًا على صورة مصر الإقليمية، التي طالما قدّمت نفسها باعتبارها القوة العربية المركزية. فالتواطؤ في إبادة غزة جعل من القاهرة طرفًا ضعيفًا أمام الرأي العام العربي، الذي بات يرى أن النظام المصري يتاجر بالقضية الفلسطينية بدلًا من الدفاع عنها.

كما أن انكشاف هذا الانحياز جعل قوى المقاومة في غزة تبحث عن بدائل في الإقليم، سواء عبر قطر أو تركيا أو حتى أطراف أخرى، ما يعني تراجعًا استراتيجيًا لدور مصر التقليدي في إدارة الملف الفلسطيني.

بالتالي لم يعد ممكنًا توصيف الدور المصري في غزة بالوساطة، إذ تجاوز ذلك إلى أن يكون شريكًا في العدوان. فمن طرح مقترح نزع سلاح المقاومة، إلى التواطؤ في الحصار والتجويع، إلى استغلال المأساة لمكاسب مالية وسياسية، باتت القاهرة طرفًا فاعلًا في خطة الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية.

ويبرز المراقبون أن الوساطة الحقيقية تتطلب حيادًا وإنصافًا، لكن ما تمارسه مصر اليوم هو انحياز صريح، يضعها في خانة المعتدي لا الوسيط.

وبذلك، يمكن القول إن النظام المصري تخلى عن كل مسؤولياته التاريخية والإنسانية، واختار أن يقف في خندق إسرائيل، مقابل بقائه في السلطة وحصد المكاسب المالية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى