معالجات اخبارية

77 عاماً على النكبة: فشل التسوية وسقوط مشروع السلطة الفلسطينية

يتكرس فشل خيار التسوية وسقوط مشروع السلطة الفلسطينية مع حلول الخامس عشر من أيار/مايو من كل عام، حيث يُحيي الفلسطينيون ذكرى نكبتهم، التي تمثّل لحظة التهجير القسري الأكبر في تاريخهم الحديث، عندما طُرد أكثر من 800 ألف فلسطيني من ديارهم بفعل المجازر والقتل والتطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونية بدعم غربي مباشر.

وبينما يواصل الإسرائيليون احتفالاتهم بما يسمونه “عيد الاستقلال”، تعيد الوقائع اليومية التأكيد أن المشروع الصهيوني لم يكن يومًا مشروع “تحرير وطني” لشعب بلا أرض، بل مشروع استعمار اقتلاعي إحلالي لم يتوقّف منذ 1948.

في 2025، تحلّ ذكرى النكبة في ظلّ حرب إبادة تشنّها دولة الاحتلال على قطاع غزة، بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وراح ضحيتها حتى الآن أكثر من 52 ألف فلسطيني، في مشهد يختزل سبعة عقود من الاستعمار والاحتلال والقتل الممنهج.

ورغم هول الجرائم، يقابل العالم ما يجري ببلادة وصمت، بل بانحياز مفضوح للمحتلّ.

رهان السلطة على التسوية: من أوسلو إلى الفراغ

منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، راهنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تحوّلت إلى “سلطة فلسطينية” تحت الاحتلال، على خيار التسوية السياسية كطريق لاستعادة الحقوق الوطنية.

كان التصوّر أن إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي ستفضي تدريجياً إلى دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967، مع حلّ لقضية اللاجئين والقدس.

لكن بعد 30 عاماً من هذا الرهان، لم تحصد السلطة سوى الكوارث: تضاعف عدد المستوطنين، تمزقت الضفة الغربية بجدار الفصل العنصري، جرى خنق قطاع غزة ومحاصرته وتحويله إلى “منطقة غير صالحة للحياة”، وتمّت تصفية ملف اللاجئين عملياً، بينما تحوّلت السلطة ذاتها إلى أداة للتنسيق الأمني مع الاحتلال، فاقدة للشرعية والقدرة على الفعل.

لم يكن فشل التسوية محض خطأ تقدير فلسطيني. فالمشروع الصهيوني ذاته لا يقوم على فكرة التفاوض وتقاسم الأرض، بل على فرض الوقائع بالقوة.

ومنذ 1948، انتهجت إسرائيل استراتيجية تقوم على التوسع والضمّ وفرض الأمر الواقع، مدعومة بحليف دولي هو الولايات المتحدة، التي لم تكن يومًا وسيطًا محايدًا.

حقائق الجغرافيا والديمغرافيا: نهاية وهم حلّ الدولتين

اليوم، يعيش في فلسطين التاريخية (من النهر إلى البحر) ما يقارب 7 ملايين فلسطيني مقابل 7 ملايين إسرائيلي.

في الضفة الغربية وحدها، يتجاوز عدد المستوطنين 800 ألف مستوطن، موزّعين على أكثر من 250 مستوطنة وبؤرة استيطانية، ترتبط جميعها بشبكة طرق وشبكات بنية تحتية مخصّصة لليهود فقط، ما يجعل فكرة إقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة أقرب إلى الوهم.

جدار الفصل العنصري، الذي ابتلع نحو 10% من أراضي الضفة، زاد من تقطيع أوصال المناطق الفلسطينية، وحوّل المدن الكبرى إلى “جزر” معزولة تحكمها الحواجز العسكرية. أما القدس الشرقية، فقد جرى تهويدها بشكل مكثف، عبر مشاريع استيطانية كبرى، وعمليات طرد ممنهجة لسكانها الفلسطينيين.

تدمير قطاع غزة في الحروب المتتالية، وآخرها حرب الإبادة الحالية، هو الوجه الآخر لنفس المشروع: خنق المقاومة، وتجويف أي كيان فلسطيني مستقل، وتحويل القطاع إلى سجن جماعي في انتظار التهجير القسري.

أوسلو: اتفاق بلا دولة ولا سيادة

لقد تجلّى فشل مشروع التسوية في أن السلطة الفلسطينية لم تصبح سوى “إدارة بلدية موسّعة” تعمل تحت سقف الاحتلال.

حتى الطابع “السيادي” المحدود الذي منحته اتفاقات أوسلو في مناطق (أ) جرى انتهاكه مراراً بعمليات الاجتياح والاغتيال والاعتقال.

في السنوات الأخيرة، وبعدما أجهضت دولة الاحتلال عملياً اتفاق أوسلو، جرى تقليص مساحة “السيادة الفلسطينية” إلى مجرد إدارة خدمات (صحة، تعليم، بلديات)، مع الحفاظ على التنسيق الأمني لضمان أمن المستوطنات والجيش الإسرائيلي.

وبينما كانت السلطة تأمل أن تحقّق عبر المفاوضات ما عجزت عن تحقيقه بالمقاومة، استخدمت دولة الاحتلال تلك الفترة لتعزيز احتلالها وشرعنته عبر تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، متجاوزة “مبادرة السلام العربية” التي كانت تشترط إنهاء الاحتلال مقابل التطبيع.

الرهان الإسرائيلي على الاستسلام الفلسطيني

لسان حال قادة دولة الاحتلال اليوم واضح: بعد القضاء على أوسلو، وإضعاف السلطة الفلسطينية، وضرب قطاع غزة، ومع تراجع القوة العربية والإقليمية (سوريا، العراق، حزب الله)، ومع وجود دعم أميركي مطلق من إدارة دونالد ترامب، ما الذي يجبر تل أبيب على القبول بأي تنازل؟

الحل الوحيد الذي تطرحه دولة الاحتلال هو الاستسلام الكامل: لا دولة فلسطينية، لا عودة لاجئين، لا انسحاب من الأراضي المحتلة.

وكل ما يُعرض هو “حكم ذاتي موسّع” بدون سيادة، في إطار نظام فصل عنصري (أبارتهايد) يشرعن التفوّق اليهودي في كامل فلسطين.

مأزق السلطة الفلسطينية: غياب الاستراتيجية

في مواجهة هذا الواقع، تعيش القيادة الفلسطينية حالة من العجز والإنكار. لم تقم السلطة بمراجعة نقدية لخيار التسوية، ولا بصياغة استراتيجية بديلة قادرة على مجابهة المشروع الصهيوني.

لا وحدة وطنية، ولا إعادة بناء لمنظمة التحرير كممثل جامع، ولا استنهاض لطاقات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.

وفي الوقت الذي تواصل فيه دولة الاحتلال مشروعها الاستيطاني والتوسعي بلا هوادة، تكتفي القيادة الفلسطينية بعقد الاجتماعات الروتينية، وإصدار بيانات الشجب، والرهان على “صحوة” المجتمع الدولي، رغم أن تجربة 77 عاماً تؤكد أن هذا الرهان خاسر.

وإذا كان إحياء ذكرى النكبة يذكّر العالم بجريمة اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، فهو أيضاً مناسبة لمساءلة قيادة السلطة عن خياراتها واستراتيجياتها. ففلسطين اليوم تعيش نكبة مستمرة، تتجدّد فصولها في غزة والضفة والقدس والداخل.

لكن ما تثبته التجربة هو أن الشعب الفلسطيني، رغم كل الكوارث، لم يستسلم ولم يرفع الراية البيضاء. من الانتفاضات المتكررة إلى مقاومة غزة، ومن تمسّك اللاجئين بحق العودة إلى صمود الفلسطينيين في الداخل، يبقى الأمل بأن هذا الشعب قادر على النهوض مجدداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى