تحليلات واراء

أوسلو: من “وعود الدولة” إلى هندسة التبعية وتفكيك المجال الوطني الفلسطيني

في كل ذكرى لتوقيع اتفاق أوسلو يتجدد السؤال الجوهري: ماذا حصد الفلسطينيون سياسيًا واقتصاديًا ومجتمعيًا من هذا المسار؟ بعيدًا عن الضجيج الدعائي الذي يصفه بعض المروجين من أمثال أعضاء شبكة أفيخاي بـ”الإنجاز الوطني الأكبر”.

إذ تكشف الوقائع أن أوسلو كان نقطة انعطاف تاريخية حولت مشروع التحرر إلى إدارة مدنية محدودة، وشرعنت أدوات السيطرة الإسرائيلية بدل تفكيكها، ورسّخت منظومة تبعية أمنية واقتصادية تكبل أي إمكانية لسيادة حقيقية.

أولًا: تفكيك الجغرافيا وتحييد القلب السياسي

أوسلو لم يحدد حدود الدولة الفلسطينية الموعودة ولا طبيعتها؛ بل دشن خرائط التجزئة عبر تقسيم الضفة الغربية المحتلة إلى مناطق (أ/ب/ج).

وبموجب هذا التقسيم بقيت المنطقة «ج»—الأوسع مساحةً والأغنى بالموارد—تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، فيما حُشر معظم الفلسطينيين في جيوب حضرية مكتظة (أ و ب) بصلاحيات مدنية محدودة، مع استمرار اليد العليا لإسرائيل في الأمن والحدود والمجال الجوّي والمياه.

أما القدس المحتلة، قلب الهوية والسيادة، فخرجت عمليًا من معادلة التفاوض منذ اليوم الأول عبر فرض “القدس الموحدة” كأمر واقع، ما جرد أي حل نهائي من شرطه السياسي والأخلاقي.

ثانيًا: أمن بلا سيادة

بَدل أن يُنهي أوسلو السيطرة العسكرية على الشعب الواقع تحت الاحتلال، أسّس لبنية «تنسيق أمني» دائمة حمّلت السلطةَ الفلسطينية وظيفةَ الضبط الداخلي تحت سقف الاحتلال.

عمليًا، جرى استبدال الحاكم العسكري بشبكةٍ من الترتيبات تُبقي «حقَّ الفيتو» الأمني لإسرائيل في كل مفاصل الحركة: من المعابر إلى سجلات السكان إلى خرائط الانتشار.

هكذا انقلب المنطق: صار «الأمن» شرطًا على المجتمع الفلسطيني لا التزامًا دوليًا على قوة الاحتلال. ومن هنا ولدت مفارقة مريرة: سلطة تحاسَب على “الاستقرار” داخل كانتونات معزولة، بينما تتواصل الاقتحامات والمصادرات وبناء المستوطنات خارج صلاحياتها.

ثالثًا: اقتصاد «باريس»… تبعية ممأسسة

بروتوكول باريس الاقتصادي، الملحق بأوسلو، ربط الاقتصاد الفلسطيني جمركيًا وماليًا بإسرائيل: عملة بلا سيطرة نقدية، حدود تجارية يتحكم بها الطرف الإسرائيلي، إيراداتٌ ضريبية تمر عبره، وسلاسل توريد ونقل تُحكمها «بوابات» أمنية.

النتيجة: اقتصاد رهين الإغلاقات والعقوبات والاقتطاعات، عاجز بنيويًا عن التخطيط بعيد المدى أو اجتذاب استثمار منتج، ومَجبور على اقتصاد خدماتٍ هش ومساعداتٍ مشروطة. هذا الترتيب لم يكن «مرحلة انتقاليّة»؛ بل صار نظامًا دائمًا يعمّق الفوارق الطبقية ويُضعف البنى المنتِجة ويجعل لقمة العيش أداة ابتزاز.

رابعًا: اللاجئون وحق العودة… ملف “التأجيل الدائم”

أوسلو رحّل القضايا الجوهرية—القدس، اللاجئون، المستوطنات، الحدود—إلى مفاوضات الوضع النهائي، ثم تركها لزمن بلا أفق.

فقد جرى عمليا تجميد حق العودة داخل مسارات تقنية ومؤتمرات رعاية، بينما واصلت دولة الاحتلال تغيير الوقائع على الأرض. هكذا حول أحد أعمدة القضية الفلسطينية إلى «ملف تفاوضي لاحق»، ففقد وزنه الأخلاقي والسياسي في الحياة الدولية، وتراجعت قضيّة اللاجئين إلى هوامش براغماتية.

خامسًا: «أقل من دولة»… السقف الذي لم يتغير

المفارقة التي يذكر بها باحثون فلسطينيون، منهم أنطوان شلحت، أن الخطّ الحاكم في المؤسسة الإسرائيلية منذ رابين نفسه لم يعد بدولة فلسطينية ذات سيادة كاملة ولا بالانسحاب إلى خطوط 4 حزيران/يونيو 1967.

بل طُرحت—صراحةً—صيغة «كيان أقل من دولة»، مع تمسك ببقاء القدس الموحّدة تحت السيطرة الإسرائيلية والاحتفاظ بغور الأردن كـ«حدود أمنية شرقية».

لاحقًا، في نقاشات مراكز فكر إسرائيلية—ومنها أوراق تدفع عمليًا نحو ضمّ المنطقة «ج»—تبلور الإجماع اليميني: لا دولة فلسطينية ذات معنى، بل إدارة ذاتية منزوعة السيادة، وممرّات اقتصادية وأمنية تحت إشرافٍ إسرائيلي دائم. بذلك يصبح أوسلو، بمنطقه المؤسس، البوابةَ «القانونية» لتسويق هذا السقف.

سادسًا: سردية «90%»… أرقامٌ تُخفي اليد العليا

تُروّج الأبواق الدعاية التابعة للاحتلال مقولة أن «أكثر من 90% من الفلسطينيين باتوا تحت إدارة فلسطينية»، وكأن الإدارة المدنية تساوي السيادة.

لكن الواقع أن السيطرة الفعلية—على الأرض والموارد والحركة—بقيت بيد الاحتلال الإسرائيلي: الطريق بين مدينتين فلسطينيتين يحتاج «تصريحًا»، والبيوت تُهدم في «ج»، والمستعمرات تتضخّم، والجيش يقتحم مدن «أ».

بالتوازي، تحوّل «التنسيق الأمني» إلى قيد على المجال السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وأداة لتجريم المقاومة الشعبية وتجفيف الفضاء العام، ما نزع الثقة بجدوى المسار التفاوضي برمته.

سابعًا: تآكل الشرعية وتصدّع البنية الوطنية

أنتجت بنية أوسلو سلطة بدون دولة، وبرلمانًا بدون سيادة، وانتخاباتٍ مُقيّدة بالجغرافيا والسيطرة الخارجية. ومع مرور الوقت، تآكلت شرعيةُ التمثيل وتعمّق الانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة، وتكاثر الفاعلون الأمنيون والإداريون على حساب مشروع وطني جامع. صار «الحكم» وظيفةً في ظل الاحتلال، لا معبرًا إلى إنهائه.

وعليه فإن أوسلو لم يكن فقط خطأً في التطبيق بقدر ما كان هندسةً للواقع تعيد صياغة الحركة الوطنية ضمن حدود ترسمها القوة الاستعمارية: تجزئة مكانية، تبعية اقتصادية، أمن موجه إلى الداخل، وحلٌّ نهائي مؤجل يستهلك إعلاميا بينما تتغير الخرائط على الأرض.

لذلك، فإن مساءلة الاتفاق ليست ترفًا بل ضرورة لإعادة بناء استراتيجية تحرّر تعيد وصل ما قطعته الخرائط: الأرض بالسيادة، الاقتصاد بالاستقلال، السياسة بالتمثيل الحقيقي. من دون ذلك، سيبقى السلام مجرّد لغة تغطي استمرارَ الاستعمار الاستيطاني، وتبقى “الدولة الفلسطينية” شعارًا فوق كيان أقل من دولة لا يملك من مقوماتها سوى الاسم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى