
في وقتٍ يُصارع فيه الفلسطينيون الموت جوعًا في قطاع غزة المحاصر، وتُدفن الطفولة تحت الركام، وتبحث العائلات عن رغيف خبز فلا تجده، وتُستباح الضفة الغربية يوميًا من قبل المستوطنين تحت حماية الاحتلال، يظهر محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ليُعلن قرارًا صادمًا “إجراء انتخابات مجلس وطني فلسطيني جديد قبل نهاية عام 2025”.
القرار، الذي خرج عن اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في مدينة رام الله بتاريخ 17 يوليو 2025، بدا منفصلًا تمامًا عن الواقع، ويكشف حجم الهوّة بين قيادة السلطة وبين معاناة الناس في كل مكان من الوطن والشتات.
فبدلًا من أن يكون الانشغال بكيفية وقف العدوان على غزة، ووقف التغوّل الاستيطاني في الضفة، وإنقاذ من تبقى من الأرواح، اختار عباس أن يُعيد تدوير أدوات سلطته بواجهة “انتخابية”، يُحكم عبرها السيطرة على المؤسسة الوطنية الفلسطينية.
مجلس على مقاس السلطة
وبموجب القرار، سيتشكل المجلس الوطني من 350 عضوًا، ثلثاه من داخل الوطن، والثلث من الشتات، ويتم اختيارهم وفق نظام انتخابي تصدّق عليه اللجنة التنفيذية، ويُحدَّد موعده بقرار من عباس نفسه.
أما شروط الترشّح، فهي أوضح من أن تُخفى الالتزام ببرنامج منظمة التحرير، والشرعية الدولية، والاتفاقيات الموقعة. أي أن المجلس المقبل سيكون مغلقًا مسبقًا في وجه أي مقاوم، أو صاحب موقف وطني حر، أو من يرفض التنسيق الأمني والتطبيع السياسي مع الاحتلال.
لجنة تحضيرية تخضع لمصادقة عباس
كما تقرر تشكيل لجنة تحضيرية برئاسة رئيس المجلس الوطني الحالي، تضم مكتب رئاسة المجلس، وأعضاء من اللجنة التنفيذية، وممثلين عن فصائل “وطنية”، ومنظمات مجتمع مدني، وجاليات فلسطينية من الخارج.
وستُرفع مهام هذه اللجنة إلى عباس خلال أسبوعين للمصادقة عليها. في مشهد يُعيد إنتاج السلطة الحالية ذاتها، عبر أدوات “شرعية” مصنوعة على الورق، بعيدة عن أي مشاركة حقيقية للشعب الفلسطيني.
مشروع انتخابي بلا شرعية شعبية
ولا يمكن فصل قرار إجراء انتخابات مجلس وطني جديد عن حالة الانهيار الوطني الشامل التي تعيشها الساحة الفلسطينية. فالاحتلال يواصل عدوانه بلا هوادة، والانقسام السياسي يزداد تعمقًا، والحصار الإسرائيلي يُطبق على غزة حتى بلغ حدّ المجاعة، بينما تُلاحق السلطة المقاومين وتعتقل الأصوات الحرة في الضفة.
وهذا القرار جاء ليُكرّس مشروعًا هدفه التحكّم لا التمثيل، والإقصاء لا الشراكة، حيث يُصمم المجلس على مقاس السلطة، ويُمنع منه كل من يخالف توجهاتها أو يخرج عن خط التنسيق الأمني والالتزام باتفاقيات أوسلو.
وما يجري ليس محاولة لإحياء المؤسسات الوطنية، بل فرض أمر واقع سياسي جديد، يُعزز القبضة الأمنية، ويُعمّق الفجوة بين السلطة والشعب، ويُنتج شرعية شكلية فاقدة لأي قيمة تمثيلية حقيقية.
وجاء القرار في توقيت كارثي غزة تموت جوعًا، الضفة تُنهب يوميًا من المستوطنين، والمخيمات في الخارج تُدفع نحو التفكك، بينما تنشغل القيادة بإعادة ترتيب كراسيها داخل مؤسسة فقدت شرعيتها الشعبية منذ زمن.
وهذا المشروع الانتخابي، في جوهره، لا يُبشّر بأي تغيير وطني حقيقي، بل يُعيد إنتاج منظومة الفساد والهيمنة، ويُمدّد عمر سلطة تحوّلت إلى عبء على القضية الفلسطينية، بعد أن فقدت كل صلة بمصالح شعبها ومبادئه.