معالجات اخبارية

عبور “العبّار”

بقلم يسري الغول
عندما اقتنع أخيرًا عام 2004 بمقولة سابقته، غولدا مائير، بأن غرْة ستبقى دائمًا “شوكة في لحمنا”، قرر إيريل شارون الانسحاب فجأةً من القطاع بصورة فردية دون حتى أدنى تنسيق مع رام الله. ربما يكون خنقها من على بعد خطوة أقل تكلفة، ولكن ماذا يفعلون ب 21 مستوطنة بكل بنيتها التحتية والقواعد العسكرية التي أقاموها لحماية مستوطنيها المقدر عددهم بنحو 9000؟

كانت لدى شارون تجربة مشابهة في سيناء المحتلة عندما أمر عام 1972 بتشريد نحو 20 ألفًا من بدو سيناء من منطقة رفح المصرية تمهيدًا لزرع مستوطنات تفصل مصر عن قطاع غرْة. عندما وضعت حرب أكتوبر 73 أوزارها تسارع ظهور المستوطنات، وكانت كبراها مستوطنة ياميت التي خُطط لها استيعاب نحو ربع مليون مستوطن بحلول عام 2000.

ثم حدثت معاهدة كامب ديفيد عام 1979 فماذا يفعلون الآن بمستوطنيها الذين استمرأوا شواطئها الناعسة وأشجارها الطيبة من النخيل والزيتون والخوخ واللوز؟ طلبوا من مصر 80 مليون دولار على سبيل التعويض إذا أرادت المستوطنات ببنيتها التحتية خاليةً سليمة. وفي النهاية، عام 1982، اضطرّوا إلى إخلاء ساكنيها بالقوة في مشاهد درامية من البكاء والنحيب قبل أن يسووها بالأرض ويرحلوا.

هذه المرة، تحديدًا في الأسبوع الأخير من يناير 2005، كان رجل أعمال إماراتي، اسمه محمد علي العبّار، يحزم حقائبه في طريقه لعبور جسر ضخم في اتجاه تل أبيب.

أشرف الجنرال إفرايم اسنيه بنفسه على ترتيب جدول أعمال العبّار في تل أبيب والقدس ورام الله. يقولها صريحةً: “العبّار لا يأتي إلى غرْة بغرض صنع المال”.

كان العبّار يأمل في لقاء شارون لمناقشة أمر مستوطنات غرْة وفي حقيبته عرض مفتوح لشرائها خاليةً سليمة على سبيل الاستثمار ظاهريًا. في الواقع لم يكن الأمر يتعلق بالاستثمار بقدر ما كان يتعلق بتحول استراتيجي في موقف بلاده من القضية الفل.سط-ينية. هذه زيارة لا يمكن أن يفكر فيها رجل أعمال بهذا الحجم أو بغيره دون موافقة أسياده من حكام دبي وأبوظبي، إن لم يكن بأمر مباشر منهم.

حين علم بكُنه الزائر وسبب الزيارة، انقض نائب شارون آنئذ، شمعون بيريس، على الفرصة واستقبله كي يسمع منه. لابد أن العبّار وقتها – وهو قارئ مثقف فاهم مطّلع على الأمور – لم يكن في حاجة إلى تقييم موقف بيريس؛ إذ إن هذا كان قد عبر عن رؤيته الشاملة لمستقبل الهيمنة الإس.رIئيلية على المنطقة كلها قبلها بأكثر من عشر سنوات عندما نشر تفاصيلها في كتاب “الشرق الأوسط الجديد”.

اختبأ العبّار – ومن ورائه حكومته – وراء حجة أن “أصدقاءه” من الفل.سط-ينيين متحمسون للفكرة بمن فيهم محمود عباس. إذا لم يتحقق الهدف الظاهري من الزيارة إذًا فلا بأس. تحركت الكرة في الاتجاه الاستراتيجي الجديد فعزز العبّار علاقاته مع “أصدقاء” ي&ود، من أبرزهم الأورثوذكسي إيلي إبستين الذي أطلق معه مبادرة “أطفال إبراهيم” تمهيدًا لما نعرفه الآن بمشروع “الاتفاقات الإبراهيمية”.

ولابد أن هذا كان له دور كبير في إقناع حكام الإمارات بالسماح عام 2008 لأول معبد ي&ودي في دبي. عبّر إبستين للعبّار عن امتنانه عمليًا لجهوده من خلال هذه الكلمات المطرزة على وسادة التوراة في المعبد: “تُكرَّس هذه التوراة لشرف سعادة/ محمد علي العبّار الذي ألهم أصدقائه (أصدقاءه) وبلاده وجيله عبر رؤيته وشخصيته” (انظر الصورة).

في أعقاب ذلك توطدت علاقات العبّار بالدوائر الص@يونية داخل إس.رIئيل وخارجها حتى بلغت ذروة جديدة عام 2021 عندما كُشف النقاب عن أنه كان أبرز المتبرعين بما قُدر بنحو 550 مليون شيكل (نحو 165 مليون دولار) لصالح ما يسمى مبادرة الأمن الغذائي الإس.رIئيلية، أو بعبارة أخرى: مبادرة إطعام المستوطنين.

في العام نفسه وقعت مؤسسات إماراتية مع نظيراتها الإس.رIئيلية اتفاقات تعاون في مجالات مختلفة، من بينها المجال الطبي. تبرعت إس.رIئيلية بإحدى كلتيها لإماراتي وعادت الطائرة بإحدى كليتي إماراتي آخر إلى إس.رIئيل. ثم شارك العبّار في حفل كوكتيل في تل هاشومير في مستوطنة رامات غان حيث جُمعت التبرعات لصالح أشهر مستشفى لديهم.

“أنا لست مهتمًا بالبيزنس. هل يمكن أولًا أن يتعرف بعضنا على البعض الآخر؟ هل يمكن أن يلتقي أطفالنا بأطفالكم؟ هذا هو الهدف الأسمى وراء هذا. لا يتعلق الأمر بالبيزنس؛ فالبيزنس سيأتي .. كنت أداعب أحدهم فقلت له: أحتاج أولًا إلى أن أقابل أمك، فتعال قابل أمي. هلا فعلنا هذا أولًا؟ .. أنا حريص جدًا على لم شمل الأسرة (الإبراهيمية)”. من كلمة العبّار خلال مؤتمر قمة للتكنولوجيا بين الإمارات وإس.رIئيل في دبي عام 2021.

في هذه الأمثلة وفي غيرها، لا شك إذًا في أن العبّار لا تهمه الفلوس ولا البيزنس في المقام الأول. يهمه فقط السعي وراء أجندة أسياده التي يضعون على قمتها حماية نظام الأسر الحاكمة في الإمارات. وهذا الهدف – كما يرونه الآن – لا يتحقق إلا بخدمة الأجندة الص@يونية. هذه رؤيتهم وكل طرف حر في رؤيته وفي تحديد ما تقبع فيه مصلحته ومنفعته.

لكن العبّار يتمدد الآن داخل مصر بالأجندة نفسها، فأين تحدد هذه مصلحتها ومنفعتها ومتطلبات أمنها القومي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى