تفكيك سردية “الحرب الأهلية” في غزة وأدوات شبكة أفيخاي للتأثير

تدفع حسابات عربية مرتبطة بالمنظومة الإعلامية للجيش الإسرائيلي، المعروفة بشبكة أفيخاي، برواية مفادها أن غزة بدأت تعيش واقع الحرب الأهلية وذلك فور إعلان وقف إطلاق النار وإنهاء حرب الإبادة الإسرائيلية.
ويرى مراقبون أن تكثيف حسابات شبكة أفيخاي الترويج للحرب الأهلية تندرج في إطار يهدف إلى إعادة تعريف المشكلة والفاعل والمسؤولية بهدف نقل مركز الثقل من الاحتلال وتداعياته العسكرية والاقتصادية، إلى خصومات داخلية مزعومة تصبح هي المبرر لأي ترتيبات أمنية أو سياسية لاحقة.
وتقوم هذه السردية على ثلاث ركائز. الأولى، تجزئة الأحداث المحلية إلى حالات منفصلة وإعادة تركيبها كسياق عام يوحي بانتشار اقتتال داخلي. الثانية، توسيع نطاق الحوادث ذات الطبيعة الجنائية أو حملات ضبط مخالفين لتُعرض كصراع أهلي ذي بعد سياسي.
فيما السردية الثالثة، تكثيف النشر المتزامن عبر حسابات متعددة تستخدم لغة واحدة تقريبا ووسوما موحدة، بما يمنح الانطباع بوجود رأي عام واسع بينما هو في جوهره نشاط منسق.
شبكة أفيخاي ويكيبيديا
على المستوى الميداني، فإن ما يجري في قطاع غزة عمليات ضبط لعصابات مسلحة وشبكات تهريب ونهب تشكلت في فراغ السلطة وتحت ضغط الاقتصاد غير النظامي.
ويقول المراقبون إن تحويل هذا النمط إلى عنوان “حرب أهلية” يحقق وظيفتين: يمنح مشروعية لطرح “الإدارة بالوكالة” عبر تشكيلات مسلحة بديلة، ويقلص مساحة المساءلة عن الانتهاكات الناتجة عن العمليات العسكرية والبنية الحاصلة للحصار.
والأثر السياسي لهذا الإطار الخطابي واضح. عندما يُقنع الجمهور الخارجي بأن الصراع داخلي، تتراجع قابلية دعم مسارات إعادة الإعمار أو الضغط من أجل قواعد اشتباك تضمن حماية السكان. كما تُفتح نافذة لتدخلات أمنية غير شفافة تحت ذريعة الفصل بين أطراف محلية متنازعة.
وعلى المستوى القانوني، يسهل إضعاف معيار التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية عندما يُقدَّم المجال العمراني كحيز نزاع أهلي دائم.
أدوات شبكة أفيخاي
يمكن حصر أدوات شبكة أفيخاي في الترويج لهذه السردية في أربعة مسارات عملية. أولا، انتقاء المواد المصورة القصيرة التي تفتقر للسياق الزمني والمكاني، بما يمنع التحقق المستقل ويعزز قابلية إعادة التفسير.
ثانيا، استخدام حسابات وسيطة تقدم نفسها كأصوات محلية لخلق وسيط لغوي وثقافي بين المصدر العسكري والجمهور.
ثالثا، تدوير المصطلحات الأمنية بطريقة تعمم توصيف “الميليشيا” على أطراف متعددة، ما يذيب الفروق بين الجريمة المنظمة والعمل الأمني المحلي.
رابعا، تثبيت مجموعة مفاهيم مثل انهيار النظام العام وغياب المرجعية القانونية لتبرير حلول أمنية مفروضة.
ومواجهة هذه السردية تتطلب فصل تصنيفي واضح بين ثلاث فئات: نشاط جنائي منظم، إجراءات ضبط مجتمعي وقانوني، وصراع سياسي مسلح باعتبار أن الخلط المتعمد بين الفئات هو ما يمنح سردية الحرب الأهلية قوتها.
كما يستلزم ذلك بناء سجل توثيقي زمني للأحداث يعتمد مصادر مفتوحة ومنظمات محلية، مع تثبيت عناصر الحدث الأساسية: المكان، الزمن، الأطراف، الأداة المستخدمة، والمآلات القانونية وكلما زادت كثافة البيانات المعيارية تراجعت مساحة إعادة التأطير الدعائي.
مخاطر ظاهرة العصابات المسلحة في غزة
تُعدّ ظاهرة العصابات المسلحة في غزة من أخطر التحديات الأمنية والاجتماعية التي تواجه المجتمع الفلسطيني في مرحلة ما بعد حرب الإبادة.
فهذه الجماعات، التي ظهرت مستفيدة من الفراغ الأمني وتدهور الأوضاع الاقتصادية، تمثل تهديدًا مباشرًا لسيادة القانون والنظام العام، وتسعى إلى فرض نفوذها من خلال السلاح والابتزاز واستخدام العنف المنظم لتحقيق مكاسب مالية وسياسية.
وتكمن أبرز المخاطر في تفكيك النسيج الاجتماعي وتقويض مؤسسات العدالة. إذ تُحوّل العصابات منطق القوة إلى مرجعية بديلة عن القانون، ما يضعف ثقة المواطنين بالجهات الرسمية، ويخلق مناخًا من الخوف واللايقين.
كما يؤدي انتشار السلاح العشوائي إلى ارتفاع معدلات الجريمة والاشتباكات في المناطق السكنية، ما يهدد حياة المدنيين ويقوّض الأمن المجتمعي.
اقتصاديًا، تمثل العصابات أحد محركات “اقتصاد الظل”، من خلال السيطرة على تجارة الوقود والسلع وفرض الإتاوات على التجار وسائقي الشاحنات، إضافة إلى سرقة المساعدات وبيعها في السوق السوداء. هذا السلوك يفاقم الأزمات المعيشية، ويؤدي إلى تضخم الأسعار، ويُضعف قدرة المؤسسات الإنسانية على أداء دورها.
كما أن بعض هذه التشكيلات ترتبط بجهات خارجية تسعى لتوظيفها سياسيًا أو أمنيًا، ما يضاعف خطورتها على الاستقرار الداخلي. ارتباطها بشبكات تهريب وتبييض أموال يفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ويجعل من غزة ساحة تنافس استخباراتي غير معلن.
وتتطلب مواجهة الظاهرة استراتيجية متعددة الأبعاد تشمل إنفاذ القانون بآليات شفافة وخاضعة للرقابة، وتفعيل القضاء، وتوفير بدائل اقتصادية للشباب، وضمان إشراك المجتمع المحلي في جهود ضبط الأمن. فالتعامل مع هذه العصابات بوصفها تهديدًا بنيويًا لا مؤقتًا هو الخطوة الأولى لاستعادة سلطة القانون وبناء بيئة مستقرة قادرة على التعافي والإعمار.