أي شرعية تبقّت لقيادة السلطة وسط المجازر في غزة والضم في الضفة؟

في الوقت الذي تتصاعد فيه المجازر في قطاع غزة، وتُنتزع الأراضي قطعة قطعة في الضفة الغربية، تواصل قيادة السلطة الفلسطينية تقديم نفسها على أنها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”.
لكن أمام مشهد الكارثة الوطنية المتراكمة، يُطرح السؤال بحدة متزايدة: كيف يمكن لسلطة سياسية فقدت زمام الفعل والإرادة معًا، أن تدّعي قيادة شعب تُرك ليُذبح ويُطرد ويُطوى ملفه التاريخي أمام أعين العالم؟
ففي غزة، تُزهق أرواح الأطفال والنساء في حرب إبادة موصوفة منذ أكثر من تسعة أشهر، بينما لا تزال السلطة تختبئ خلف بيانات خجولة، وخطابات مترددة، وسفريات دبلوماسية تفتقد إلى أي مضمون فعلي، بل تفتقر حتى إلى موقف أخلاقي صريح يرقى إلى مستوى الدم الفلسطيني المراق.
أما في الضفة، حيث يُفترض أن تكون للسلطة سيطرة إدارية وأمنية، فقد بات الفلسطينيون يعيشون تحت عدوان مستمر من الجيش والمستوطنين.
وذلك وسط ازدياد غير مسبوق في عمليات القتل اليومي، والمداهمات الليلية، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي، وتوسيع المستوطنات، في مشهد يُعيد تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا على نحو يُنذر بضم زاحف ونهائي.
غياب في غزة وتواطؤ في الضفة
منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اختفت السلطة فعليًا من مشهد الحدث.
إذ لم تُرسل وفود دعم أو إغاثة، ولم تُعلن حالة طوارئ وطنية، ولم تباد لمجرد التلويح وقف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال ولو كإجراء رمزي. حتى عندما بدأت المجاعة تهدد حياة آلاف الأطفال في غزة، لم تُسجل السلطة موقفًا استثنائيًا يتجاوز الروتين الخطابي.
بل إن الأخطر، أن سلوك السلطة بدا منسجمًا – بصمتٍ لافت – مع استراتيجيات الحصار، حين تجاهلت دعوات إدانة أطراف عربية متورطة في إغلاق المعابر أو التواطؤ مع الرواية الإسرائيلية، ما جعلها جزءًا من مشهد العجز، إن لم يكن الشراكة في الفشل.
وفي الضفة، يبدو التواطؤ أكثر وضوحًا. فما زال التنسيق الأمني قائمًا على قدم وساق، رغم ارتفاع وتيرة العدوان الإسرائيلي.
تُنفذ الأجهزة الأمنية الفلسطينية حملات اعتقال بحق النشطاء المناهضين للتطبيع أو المقاومين للاعتقال السياسي، في الوقت الذي تتجول فيه قوات الاحتلال في كل مدينة وبلدة بحرية تامة.
وهنا يتساءل مراقبون كيف تستقيم “شرعية تمثيل وطني” مع وظيفة أمنية تخدم الغزاة وتكمم أفواه المنكوبين؟.
نهج التسوية والتنسيق: من عبث إلى عار
السلطة التي نشأت أساسًا كأداة تنفيذية للمرحلة الانتقالية من “اتفاق أوسلو”، تواصل حتى اليوم التمسك بمسار انهار منذ أكثر من عقدين.
إذ لا مفاوضات حقيقية تُجرى، ولا وساطات أمريكية جدّية، ولا استعداد إسرائيلي للاعتراف بأدنى حقوق الفلسطينيين. ومع ذلك، لا تزال قيادة السلطة تلوّح بخيارات “العودة إلى التفاوض” و”حل الدولتين” كأن شيئًا لم يكن.
الأدهى من ذلك، أن التنسيق الأمني لم يعد مجرد ورقة تفاوضية، بل تحوّل إلى ثابت سياسي يحكم عقلية المؤسسة الفلسطينية، رغم كل النداءات الشعبية والفصائلية بوقفه، ورغم كونه السلاح الأبرز الذي تستخدمه دولة الاحتلال للجم أي انتفاضة أو احتجاج.
كيف يمكن لشعب يعيش في مجزرة مفتوحة، وفي وقت يُهدد فيه بالتهجير الجماعي، أن يُصدق بأن السلطة تدافع عنه، بينما تمارس التنسيق مع أعدائه، وتُلاحق شبابه، وتمنع الغضب من التحوّل إلى مقاومة؟
ما تبقّى من الشرعية؟
الحديث عن شرعية السلطة لم يعد يدور في إطار القانون والدستور فقط، بل في جوهره السياسي والأخلاقي. فهذه السلطة، التي لم تُنتخب منذ قرابة عقدين، وفقدت شرعية صناديق الاقتراع، باتت اليوم تعاني أيضًا من تآكل شرعيتها التمثيلية والميدانية.
فالفلسطيني الذي يرى طفله يموت جوعًا في غزة، أو يُقتل برصاص المستوطنين في نابلس، لم يعد يثق بقيادة لا تملك الجرأة على قول الحقيقة، أو الدفاع عنه في المحافل الدولية.
والفلسطيني الذي يُحتجز في سجون السلطة لمجرد تغريدة أو موقف سياسي، لم يعد يرى في مؤسساتها “حامية للوطن”، بل أداة من أدوات القمع التي تُضاف إلى الاحتلال ذاته.
وفي لحظة تاريخية كهذه، حين يتهدد مشروع الشعب الفلسطيني كله بالانهيار – بفعل صفقة القرن، وضم الضفة، وتصفية غزة – تبدو السلطة وكأنها تعيش في عالم موازٍ، تُدير مؤتمرات بيروقراطية، وتستقبل السفراء، وتناقش خططًا للتنمية تحت الاحتلال!
ماذا بعد؟
إذا استمرت السلطة على هذا النهج، فإنها لن تُواجه فقط انهيارًا سياسيًا، بل انفجارًا اجتماعيًا حتميًا. فالغضب الشعبي يتصاعد، والأصوات التي تطالب بإعادة بناء المشروع الوطني تتزايد، والنقاش حول شرعية القيادة لم يعد نخبويًا، بل بات جزءًا من الوعي الجمعي للفلسطينيين، داخل وخارج الأرض المحتلة.
لقد آن أوان الاعتراف بأن هذه القيادة – بشكلها الحالي – لم تعد قادرة على تمثيل تطلعات الشعب الفلسطيني، ولا على الدفاع عن حقوقه، ولا على مواجهة مشاريعه التصفوية. وأن استمرارها في موقع القرار، دون مراجعة عميقة وشاملة، لم يعد يخدم إلا الاحتلال، ويُطيل من أمد المعاناة.
وأمام هذا الانهيار المزدوج في غزة والضفة، لا يمكن للسلطة أن تستمر في التمسك بالشرعية الشكلية.
المطلوب اليوم هو وقفة تاريخية، تبدأ بوقف التنسيق الأمني فورًا، واعتراف كامل بالمسؤولية عن فشل السنوات الماضية، ثم الانخراط في حوار وطني شامل يعيد تعريف المشروع الفلسطيني، ويُعيد بناء مؤسساته على أساس التمثيل الحقيقي والمقاومة الفعلية، لا على أساس المصالح والمناصب.
فلا شرعية بلا دم، ولا قيادة لمن يتهرب من التضحية بينما يُذبح شعبه.