تحليلات واراء

تصريحات نتنياهو: التطبيع العربي في خدمة المشروع الإسرائيلي للهيمنة

في حوار تلفزيوني مع القناة 14 الإسرائيلية، أطلق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو سلسلة تصريحات تكشف بوضوح توجهات المشروع الإسرائيلي للهيمنة الكاملة في ضوء التحولات الإقليمية.

فقد قال نتنياهو صراحة: “العالم العربي مفتوح لنا، وما يهددنا حاليًا هو الإمبراطورية الإيرانية، وليس الفلسطينيين الذين سنجيد التعامل مع تهديدهم”.

هذه الكلمات لم تكن مجرد توصيف للمشهد الاستراتيجي الإسرائيلي، بل تمثل إعلانًا وقحًا عن المرحلة الجديدة من المشروع الإسرائيلي في المنطقة، والتي تقوم على تعزيز الهيمنة الإسرائيلية عبر بوابة التطبيع العربي، والتفرغ لسحق ما تبقى من القضية الفلسطينية.

التطبيع العربي.. تمهيد للعدوان

تصريحات نتنياهو لم تأتِ من فراغ، بل تستند إلى واقع سياسي جديد تشكّل في السنوات الأخيرة، مع اندفاع عدد من الأنظمة العربية نحو تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ضمن ما عُرف بـ”اتفاقات إبراهيم” وما تبعها من تفاهمات أمنية واقتصادية لم يُعلن عن معظم تفاصيلها.

هذا التطبيع، الذي بدأ تحت شعار “الاستقرار والتنمية”، تحوّل سريعًا إلى أداة إسرائيلية لتوسيع النفوذ، وضمان الشرعية الإقليمية لسياساتها الاستيطانية والعسكرية.

وما قاله نتنياهو ليس مجرد قراءة أمنية، بل تلخيص سياسي واضح لمعادلة قائمة: العالم العربي، أو بالأحرى “الأنظمة العربية المطبّعة”، لم تعد ترى في دولة الاحتلال تهديدًا، بل شريكًا استراتيجيًا.

وفي ظل هذا المناخ، لم يعد من الضروري على دولة الاحتلال تقديم أي تنازل للفلسطينيين أو إبداء أي التزام تجاه حقوقهم الوطنية.

فالمشكلة، من وجهة النظر الإسرائيلية، “تمت السيطرة عليها”، وبات المطلوب فقط “إتقان التعامل” مع ما تبقى من التهديد الفلسطيني، عبر القمع، والقتل، والعقوبات الجماعية، وهو ما نشهده يوميًا في غزة والضفة الغربية.

تواطؤ عربي وغطرسة إسرائيلية

بفضل التغطية السياسية التي وفّرها التطبيع، تمادت دولة الاحتلال في غطرستها، فشنت عدوانًا غير مسبوق على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، دمّرت خلاله الأحياء المدنية، وقتلت عشرات الآلاف من المدنيين، بينما اكتفت العواصم المطبّعة بالصمت، أو ببيانات شكلية تدعو إلى “ضبط النفس”.

ولم تكن تلك الغطرسة مقتصرة على الفلسطينيين، بل امتدت إلى الجبهات الإقليمية الأخرى: قصف في سوريا ولبنان، واستهداف مباشر للأراضي الإيرانية.

ولعل التصعيد الأخير مع إيران خير مثال على النتائج الكارثية للتطبيع. فقد شجّعت مظلة العلاقات مع دول عربية أساسية دولة الاحتلال على المجازفة الاستراتيجية بضرب الأراضي الإيرانية، وهي خطوة كان من المستحيل الإقدام عليها لولا تأكّد تل أبيب من أن الدول العربية المطبّعة، مثل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، لن تُدين الفعل، بل ربما توفر تغطية لوجستية أو دعمًا سياسيًا ضمنيًا.

من الردع العربي إلى التحالف مع العدو

التحول الأخطر الذي تجسده تصريحات نتنياهو هو الإقرار بنهاية ما كان يُعرف يومًا بـ”الردع العربي الجماعي”.

فالدول التي كانت تعتبر دولة الاحتلال خصمًا استراتيجيًا، أصبحت اليوم تعتبرها ضمانة أمنية. وساد الخطاب الرسمي العربي، خاصة في دول الخليج، منطق “التهديد الإيراني”، الذي استخدم لتبرير التقارب مع تل أبيب، وكأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لم يعد يُمثّل تهديدًا وجوديًا للعالم العربي.

هذا التحول منح دولة الاحتلال فرصة نادرة: للمرة الأولى منذ قيامها، لم تعد مضطرة للقلق من ردّ فعل عربي مشترك على جرائمها. لم تعد بحاجة إلى تبرير قتل الأطفال في غزة، أو اقتحام المسجد الأقصى، أو توسيع الاستيطان، أو قصف دمشق وبيروت.

فالدول العربية المطبّعة إما تُشارك دولة الاحتلال ذات المخاوف من إيران، أو تسعى إلى رضا واشنطن، أو تستثمر في العلاقة مع تل أبيب اقتصاديًا وتكنولوجيًا، وتعتبر القضية الفلسطينية عبئًا تاريخيًا يجب التخلص منه.

سحق الفلسطينيين عبر العزلة الإقليمية

في ظل هذا السياق، لم يعد الفلسطينيون يواجهون الاحتلال وحده فقط، بل يواجهون أيضًا عزلة سياسية عربية غير مسبوقة. وموقف نتنياهو من القضية الفلسطينية – باعتبارها تهديدًا من الدرجة الثانية يمكن “إدارته” – هو نتيجة مباشرة لهذا التواطؤ.

فبغياب الضغط العربي، لا تجد دولة الاحتلال سببًا للتفاوض أو تقديم أي تنازلات. والأسوأ، أن بعض الدول العربية بدأت تنسّق أمنيًا وسياسيًا مع الاحتلال ضد الفلسطينيين، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى في مخيمات الشتات.

التطبيع لا يجلب السلام.. بل الهيمنة

ثبت بالوقائع أن التطبيع العربي لم يفتح الطريق نحو السلام، بل فتح أبواب المنطقة أمام الهيمنة الإسرائيلية.

فبدلاً من أن يؤدّي إلى إنهاء الاحتلال، أتاح لإسرائيل توسيع تحالفاتها، واختراق العمق العربي، وبناء جبهات جديدة ضد إيران، وكل ذلك على حساب الفلسطينيين، الذين تراجعت قضيتهم من أولويات العواصم العربية إلى هامش التصريحات البروتوكولية.

لقد منح التطبيع دولة الاحتلال قدرة أكبر على الردع، لا من أجل السلام، بل من أجل القمع، وتوسيع السيطرة، وكسر المقاومة الفلسطينية.

وتحوّلت المعادلة من “الأرض مقابل السلام” إلى “السلام مقابل الهيمنة”، حيث تقدم الدول العربية علاقاتها ومشاريعها، دون أي مقابل حقيقي أو سياسي للشعب الفلسطيني.

التطبيع خيانة سياسية

تصريحات نتنياهو الأخيرة هي تأكيد قاطع على أن دولة الاحتلال لا ترى في التطبيع العربي فرصة للتسوية، بل أداة استراتيجية لتمزيق العالم العربي، وتحييد أي تهديد مشترك، وتصفية القضية الفلسطينية.

وفي الوقت الذي تستعرض فيه تل أبيب عضلاتها ضد إيران، وتتمادى في حربها على غزة، وتُمعن في تهويد الضفة، لا يجد الفلسطينيون من يرفع صوتهم في وجه الاحتلال، حتى من إخوتهم العرب.

إن التطبيع لم يكن مسارًا نحو الأمن، بل انحرافًا سياسيًا يخدم الرواية الصهيونية، ويُعزز المشروع الاستيطاني، ويُجهز على أي أفق لحل عادل.

وكما أظهر الواقع، فإن دولة الاحتلال لا تُكافئ من يطبّع معها، بل تستخدمه، ثم تُهمّشه، وتواصل بناء “إمبراطوريتها الأمنية” على أنقاض الحقوق العربية والفلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى