عباس يركب الموجة بشأن الوضع الكارثي والمأساوي في غزة

في خضم الوضع الكارثي والمأساوي في غزة، وبعد مرور أكثر من عام ونصف على حرب الإبادة الإسرائيلية واستخدام التجويع سلاحا ضد المدنيين، أطلق رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس نداءً “عاجلاً” لقادة العالم، يدعو فيه إلى وقف العدوان وكسر الحصار وإدخال المساعدات، متحدثاً بلغة حماسية عن “جرائم الإبادة والتجويع والتدمير” التي تُمارس ضد شعبه.
لكن هذا النداء المتأخر لا يمكن قراءته إلا في إطار محاولة يائسة لركوب موجة التعاطف الدولي مع غزة، بعد أن فقدت السلطة مصداقيتها تماماً في الشارع الفلسطيني، بل وغدت في نظر كثيرين شريكاً في الجريمة عبر صمتها وتواطئها وسلوكها العملي منذ اليوم الأول للعدوان.
عباس، الذي لم يزر غزة منذ نحو عقدين، يطلّ اليوم ببيان إنساني فجّ، يدّعي فيه الدفاع عن سكان القطاع، رغم أن سلطته لم تحرّك ساكناً لفك الحصار الذي تشارك فيه عبر التنسيق الأمني، وعرقلة أي تحرك فلسطيني داخلي لتقديم الإغاثة أو إظهار الوحدة الوطنية.
فنداؤه “العاجل” اليوم لا يعدو كونه محاولة سياسية متأخرة لتلميع صورة سلطة غارقة في العجز، ومتصالحة مع موقعها كمقاول أمني في مشروع احتلالي أكبر.
صمت قاتل… ثم نداء متأخر
منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، التزمت السلطة الفلسطينية موقفاً باهتاً، اقتصر على بيانات شجب خجولة، ولقاءات دبلوماسية باردة، وظهور باهت لعباس في المحافل الدولية.
لم تطالب السلطة – في أوج المجازر – بأي تدخل دولي حقيقي أو محاسبة لإسرائيل، ولم تستخدم أدواتها الدبلوماسية لتعليق الاتفاقات الأمنية، أو سحب الاعتراف، أو حتى تعليق التنسيق الأمني مع الاحتلال. بل على العكس، واصلت الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية حملة قمع استباقية ضد كل من يعبّر عن تضامنه مع المقاومة أو يشارك في فعاليات داعمة لغزة.
وبينما كانت غزة تحترق، كانت السلطة تخشى أن يتحول التعاطف الجماهيري إلى تهديد داخلي لها في الضفة، فتحركت لمنع التظاهرات، وفرضت رقابة صارمة على وسائل الإعلام، في موقف يعكس بوضوح أن رأس أولوياتها لم يكن إنقاذ غزة، بل منع انتقال العدوى السياسية.
عرقلة كل جهد إغاثي
أكثر من ذلك، لم تتوقف السلطة عند الصمت أو التخاذل، بل مارست دوراً معرقلاً لكل جهد فلسطيني مستقل أو شعبي يهدف إلى إغاثة سكان القطاع أو كسر الحصار.
منذ الأسابيع الأولى للعدوان، اقترحت قوى فلسطينية وشخصيات وطنية تشكيل لجنة إغاثة وطنية تتولى جمع التبرعات وتنسيق المساعدات لغزة، بعيداً عن التجاذبات السياسية، لكن المقترح قوبل برفض قاطع من قيادة السلطة، التي أصرت على احتكار أي عمل تحت شعار “الشرعية”.
وبدل تسهيل دخول المساعدات، تحولت السلطة إلى جهة تشويش على كل المبادرات، خشية أن تظهر كياناً آخر قادراً على ملء الفراغ الذي خلّفته. هذا السلوك لا يمكن تبريره سوى بأن السلطة ترى في كارثة غزة تهديداً لتركيبتها السياسية أكثر مما تراه مأساة وطنية تستوجب التحرك.
الشعارات بدل السياسات
بيان عباس الأخير يأتي ضمن سلسلة من التصريحات الإعلامية التي لا تغير شيئاً على الأرض. يطالب بـ”إدخال المساعدات برّاً وبحراً وجواً”، بينما حكومته في رام الله لم تقدم أي خطة تنفيذية أو سياسية لذلك، ولم تتخذ أي إجراء لإجبار دولة الاحتلال أو المجتمع الدولي على فتح المعابر.
يطالب عباس بـ”الانسحاب الكامل من غزة”، وكأن احتلال غزة بدأ للتو، لا منذ 2006، عندما ساهمت سلطته نفسها في فرض الحصار بعد فوز حركة “حماس” في الانتخابات.
الأدهى أن السلطة لم تقم بأي تحرك ميداني حقيقي لتجسيد مسؤوليتها عن القطاع كما يدّعي عباس، بل تواصل الضغط لإعادة السلطة إلى غزة فقط عبر ترتيبات أمنية تضمن نزع سلاح المقاومة، لا عبر مشروع وطني جامع يعالج جذور الأزمة.
خطاب بلا مضمون… وغضب شعبي
الشارع الفلسطيني، الذي بات أكثر وعياً من أي وقت مضى بنفاق السلطة، استقبل نداء عباس الأخير بالسخرية واللامبالاة.
فكيف يمكن لرئيس لم يظهر على الحدود، ولم يوجّه حكومته لتخصيص موازنات طوارئ، ولم يُرسل وفوداً إلى معابر رفح أو كرم أبو سالم، أن يتحدث عن كسر الحصار؟ كيف يمكن لمن يعتقل الطلبة والنشطاء في نابلس والخليل بتهمة دعم المقاومة، أن يرفع شعار “إنقاذ غزة”؟
هذا الانفصام بين الخطاب والواقع لم يعد مجرد فشل سياسي، بل بات يُنظر إليه كجريمة وطنية. فالصمت، ثم العرقلة، ثم التنصل من المسؤولية، كلها أفعال جعلت من السلطة جزءاً من منظومة الإطباق على غزة، وليس حليفاً لها.
استثمار سياسي في الدماء
في نهاية المطاف، لا يمكن فهم نداء عباس الأخير إلا بوصفه محاولة للعودة إلى طاولة المفاوضات من بوابة غزة.
وبعد أن تلاشت الآمال الأميركية في تسوية عبر السلطة، وبعد أن صعدت المقاومة كفاعل حقيقي على الأرض، تسعى قيادة رام الله لإعادة تقديم نفسها كبديل “شرعي” منضبط، في حال قررت واشنطن وتل أبيب البحث عن صيغة “ما بعد الحرب”.
لكن هذه الحسابات لن تمر كما في السابق. الشعب الفلسطيني، الذي رأى بعينه مَن وقف معه ومَن تآمر عليه، لم يعد يثق في بيانات مكتوبة في مكاتب مشيدة في رام الله. غزة اليوم لا تحتاج شعارات، بل أفعالاً؛ لا تحتاج “نداءً عاجلاً”، بل مراجعة جذرية للدور الذي تلعبه هذه السلطة في تكريس الانقسام والخذلان.