استبعاد الفلسطينيين من خطط ما بعد الحرب… لماذا يناقش توني بلير مستقبلهم دونهم؟

بينما يمرّ الفلسطينيون بأحد أكثر الفصول دموية في تاريخهم الحديث في خضم حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، تعود أسماء ارتبطت بمآسي المنطقة لتتصدر المشهد، حيث توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي ارتبط اسمه بالغزو الكارثي للعراق عام 2003، يعود اليوم من بوابة غزة.
وأبرزت صحيفة الغارديان البريطانية في تحليل موسع لها، أن بلير الذي فشل كمبعوث للسلام في الشرق الأوسط حتى عام 2015، يجلس من جديد على طاولة النقاشات حول مستقبل القطاع.
لكن المعضلة الأبرز تكمن في أن الفلسطينيين أنفسهم مغيبون عن هذه الطاولة، وكأن مستقبلهم يُصاغ بغيابهم، بينما يُستدعى بلير – رمز حقبة الاحتلال والحروب – لتقديم “خطط إنقاذ”.
توني بلير ويكيبيديا
كشفت تقارير إعلامية أمريكية وبريطانية أن بلير التقى هذا الأسبوع بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبمبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، إلى جانب شخصيات إسرائيلية وإماراتية، لمناقشة خطط “اليوم التالي” في غزة.
ومن بين الأسماء البارزة التي انخرطت في هذه الحوارات جاريد كوشنر – صهر ترامب وصاحب “صفقة القرن” – ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد.
لكن اللافت أن كل هؤلاء تناقشوا حول غزة من موقع المالك والمقرِّر، في حين غاب الفلسطينيون تمامًا، إلا من إشعار شكلي لمحمود عباس، الرئيس الذي لا يحظى بشرعية شعبية بعد أكثر من 20 عامًا من بقائه في الحكم. وكأنّ القضية الفلسطينية لا تزال تُدار بعقلية الوصاية الاستعمارية: الآخرون يقررون، والفلسطينيون يتلقّون.
أوهام استعمارية على أنقاض الدم
طرح اليمين الإسرائيلي، المدعوم من إدارة ترامب السابقة، في وقت سابق مخططات أقرب إلى مشاريع عقارية استعمارية منها إلى خطط إعادة إعمار.
مقترحات مثل تحويل غزة إلى “ريفييرا” أو منتجع دولي تُدار فيه المنطقة بمشاريع استثمارية أجنبية، حتى مع استخدام نماذج مالية أعدتها شركات استشارات أمريكية كبرى مثل BCG، كشفت عن عقلية التعامل مع غزة كأرض بلا شعب.
ورغم محاولات معهد بلير التبرؤ من الانخراط المباشر في هذه المخططات، فإن مجرد تداول أسماء موظفيه في النقاشات يعكس أن الرجل يحاول إعادة تقديم نفسه كـ”وسيط دولي”، بينما يراه الفلسطينيون رمزًا لفشل الدبلوماسية الغربية وانحيازها التاريخي لإسرائيل.
غياب الفلسطينيين: ممارسة استعمارية متجددة
يؤكد مراقبون أن الوصف الأدق لهذه العملية بأنها “ممارسة استعمارية”. فالذي يتعرض للإبادة الجماعية لا يُستشار، بل يُستبدل بوصاية جديدة من القوى ذاتها المتواطئة في الجريمة.
ويشدّد هؤلاء على أن أي حل حقيقي يجب أن ينطلق من الوكالة الفلسطينية: أن يكون الفلسطينيون هم من يقررون شكل الحكم، وأولويات الإعمار، وسبل إعادة بناء مجتمعهم. وهو موقف يعكس إدراكًا متزايدًا في المجتمع المدني الفلسطيني بأن مصادرة القرار لا تقل خطورة عن العدوان العسكري نفسه.
ويطالب الفلسطينيون منذ اليوم الأول للحرب بأن تكون عملية إعادة الإعمار والحكم قائمة على أساس وحدة الضفة وغزة، وربطها بمشروع سياسي يقود في النهاية إلى دولة فلسطينية مستقلة.
كما يشدد الفلسطينيون على ضرورة أن تُبنى الخطط على الذاكرة التاريخية والحقوق غير القابلة للتصرف، وعلى رأسها حق اللاجئين الذين يشكلون 80% من سكان غزة.
لكن هذه المطالب تُقابل بتجاهل دولي مستمر. لا بل إن السلطة الفلسطينية ذاتها – رغم كونها أضعف من أي وقت مضى – مستبعدة من النقاشات، لأن إسرائيل ببساطة لا تريد شريكًا فلسطينيًا في غزة.
وبهذا، يُعاد إنتاج المعادلة: الاحتلال هو صاحب القرار، بينما يظل الفلسطينيون رهائن بين قوة عسكرية مدمرة وقيادة سياسية فقدت شرعيتها.
مأزق السلطة الفلسطينية: شرعية مفقودة
حتى محمود عباس، الرئيس الذي تحوّل إلى “ديكتاتور مدعوم خارجيًا”، لا يجد له مكانًا حقيقيًا في هذه الحوارات.
فعباس الذي انتخب عام 2005 لولاية من أربع سنوات، ما زال في الحكم منذ عقدين بفضل الدعم الغربي والإسرائيلي، لكنه اليوم يُستبعد من النقاشات المصيرية حول غزة.
هذا التناقض يكشف أن السلطة التي بنت كل استراتيجيتها على التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال والقبول بالدور الوظيفي، لم تحصد في النهاية إلا التهميش.
في المقابل الفلسطينيون يُتركون دون أي تمثيل فعلي، لا من سلطةٍ ضعيفة ولا من المجتمع المدني الذي يُقمع باستمرار سواء من الاحتلال أو من السلطة ذاتها.
بلير… إرث من الفشل والجرائم
العودة إلى توني بلير ليست مجرد تفصيل. إنها إشارة إلى أن القوى الكبرى لم تتعلم شيئًا من التاريخ.
فالرجل الذي ساهم في غزو العراق وتفكيكه، والذي فشل خلال سنوات عمله كمبعوث أممي في كبح جماح الاستيطان أو وقف الانتهاكات الإسرائيلية، يحاول اليوم أن يعيد طرح نفسه كمهندس لحل ما بعد الحرب في غزة.
لكن الفلسطينيين ينظرون إليه بوصفه مجرم حرب وليس وسيطًا، ومجرد وجوده في هذه النقاشات يُذكّر بأن مستقبلهم يُرسم بأدوات استعمارية قديمة، حيث يُدار الصراع من الخارج دون أن يكون الشعب المعني طرفًا فيه.
وعليه فإن القضية الفلسطينية اليوم تقف أمام مفترق خطير. فبينما تُصاغ خطط “ما بعد الحرب” في مكاتب مغلقة بين واشنطن وتل أبيب ولندن وأبوظبي، يُستبعد الفلسطينيون بشكل كامل من تقرير مستقبلهم. هذه ليست صدفة بل جزء من نهج قديم: مصادرة الصوت الفلسطيني وفرض حلول من الخارج.
لكن كما أظهرت تجارب التحرر في العالم، فإن حق تقرير المصير لا يُمنح، بل يُنتزع. الفلسطينيون الذين يواجهون الإبادة في غزة اليوم، والذين يصرون على التمسك بالهوية والحقوق رغم كل شيء، هم وحدهم القادرون على صياغة مستقبلهم. أما توني بلير وأمثاله، فكل ما يفعلونه هو إعادة تدوير الفشل وتكريس الوصاية الاستعمارية.