تحليلات واراء

ذباب فتح يتوعد غزة بالقمع في اليوم التالي للحرب

تتصدر أصوات إعلامية تابعة لحركة فتح المشهد بإطلاق تهديدات ووعيد ضد الشخصيات الوطنية في قطاع غزة بما في ذلك أكاديميين ونشطاء رأي بالقمع الشامل ضدهم في إطار ترتيبات ما يعرف باليوم التالي للحرب.

فمع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتفاقم المأساة الإنسانية التي يعيشها سكانه، يطفو على السطح مشهد داخلي لا يقل خطورة عن القصف والدمار: تصاعد أصوات إعلامية تابعة لحركة فتح تهدد بالقمع والاعتقال في مرحلة ما بعد الحرب.

وتكشف هذه التهديدات التي برزت على لسان شخصيات فتحاوية معروفة عن أزمة أعمق في الرؤية السياسية للسلطة الفلسطينية، وتثير مخاوف من أن يتحول “اليوم التالي للحرب” إلى جولة جديدة من الصراعات الداخلية بدل أن يكون فرصة لإعادة الإعمار ولمّ الشمل الوطني.

حركة فتح والتهديد العلني

من أبرز الأصوات التي أثارت الجدل مؤخراً، القيادي الفتحاوي محمد منذر البطة، الذي توعّد بشكل مباشر الأكاديمي المعروف في غزة فايز أبو شمالة، قائلاً إنه سيكون أول المعتقلين في سجون جهاز الأمن الوقائي فور عودة السلطة إلى القطاع.

وبحسب مراقبين فإن هذه التصريحات ليست مجرد شطحات إعلامية، بل تحمل رسالة واضحة بأن بعض دوائر فتح ترى أن أولوياتها بعد الحرب لن تكون إعادة إعمار غزة أو معالجة جراحها، وإنما إعادة بناء منظومة أمنية قمعية تستهدف النخب الفكرية والأكاديمية.

وفي وقت تتناثر فيه جثث الشهداء تحت الركام، ويصارع الناجون من أجل لقمة خبز أو قطرة ماء، يبدو أن بعض الأصوات في حركة فتح لا تفكر إلا في إقامة “مقرات الأمن الوقائي” وتجهيز زنازينها.

ويكشف هذا الخطاب عن مفارقة قاسية: بينما يراهن أهالي غزة على وعود إعادة الإعمار وتضميد الجراح، هناك من يحلم بعودة “المكتب الأمني” و”المعتقل السياسي”.

كما يضرب هذا الخطاب بعرض الحائط معاناة أكثر من مليوني إنسان يواجهون حصاراً ومجاعة وتهجيراً قسرياً، ويعيد إلى الأذهان ممارسات السلطة في الضفة الغربية حيث تُلاحق الأصوات المعارضة وتُقمع حرية الرأي والتعبير بشكل ممنهج.

حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة

تأتي هذه التهديدات في إطار نقاش واسع يدور إقليمياً ودولياً حول ما يُسمى بـ”اليوم التالي للحرب على غزة”.

وتبرز في هذا النقاش، أطروحات مختلفة: بعض القوى الدولية تروّج لفكرة عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع تحت غطاء دولي أو إقليمي، فيما تتحدث دولة الاحتلال عن صيغ انتقالية تحت إشرافها الأمني المباشر.

لكن تصريحات مثل تلك التي أطلقها محمد منذر البطة تفضح جانباً من الأجندة الخفية: ليس الهدف إعادة إعمار غزة أو دعم صمودها، بل محاولة إعادة إنتاج نموذج أمني قمعي يضمن السيطرة السياسية حتى لو كان ذلك على حساب الوحدة الوطنية.

وعلى مدار السنوات الماضية، لم تُخفِ بعض قيادات فتح رغبتها في العودة بأي ثمن، ولو عبر ترتيبات إقليمية ودولية أو على ظهر دبابة إسرائيلية.

ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة، تعززت هذه الطموحات لدى بعض الأصوات الفتحاوية التي ترى في الدمار والفراغ الأمني فرصة للعودة إلى غزة.

غير أن التهديدات العلنية ضد شخصيات أكاديمية ووطنية تعكس أزمة شرعية عميقة: فبدلاً من تقديم رؤية إصلاحية تعيد الثقة بالسلطة الفلسطينية، يخرج الخطاب الفتحاوي مشبعاً بالوعيد والانتقام، ما يضعف أي فرصة لعودة السلطة إلى غزة بقبول شعبي.

استهداف الأكاديميين والنخب

خطورة تصريحات البطة لا تكمن فقط في مضمونها القمعي، بل في الجهة المستهدفة: أكاديميون ومثقفون ووجهاء الرأي في غزة. هؤلاء يمثلون العمود الفقري لأي مشروع وطني أو إصلاحي، واستهدافهم بالاعتقال والتعذيب يعني تدمير ما تبقى من البنية الفكرية والمجتمعية التي صمدت رغم سنوات الحصار والحروب.

والأكاديمي فايز أبو شمالة، الذي كان هدفاً مباشراً للوعيد، هو صوت نقدي معروف بكتاباته وتحليلاته. وتوجيه التهديد له يعكس رغبة في إسكات العقل الحر وإحلال لغة الولاء الحزبي مكان النقاش الفكري.

وإذا ما تحققت مثل هذه السيناريوهات، فإن “اليوم التالي للحرب” لن يكون بداية جديدة لغزة، بل نسخة أكثر قسوة من واقع الضفة الغربية حيث تُحاصر الحريات. هذا من شأنه أن يقود إلى:

موجة قمع واسعة ضد النخب الأكاديمية والناشطين السياسيين وفقدان الثقة الشعبية بأي سلطة انتقالية مرتبطة بفتح وإعادة إنتاج الانقسام الفلسطيني بدل تجاوزه.

كما أن هذه العقلية قد تعطي دولة الاحتلال ذريعة إضافية للتشكيك في جدوى أي انتقال للسلطة، بحجة أن غزة ستظل ساحة للصراع الداخلي والفوضى.

وبحسب المراقبين فإن ما يحتاجه القطاع في اليوم التالي للحرب ليس “ذباباً إعلامياً” يهدد الأكاديميين، بل رؤية وطنية شاملة تقوم على:

إعادة إعمار البنية التحتية والخدمات العامة وحماية الحريات الأساسية ووقف الاعتقالات السياسية وإشراك القوى الوطنية والمجتمعية في صياغة مستقبل غزة بعيداً عن هيمنة الفصائل وتعزيز الوحدة الفلسطينية لمواجهة التحديات الإسرائيلية والدولية، فيما من دون ذلك، ستبقى غزة رهينة للخراب الخارجي والقمع الداخلي في آن واحد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى