تحليلات واراء

حماة الحدود أم شركاء الجريمة؟ مصر والأردن في خدمة مشروع التهجير الإسرائيلي

لم تعد دولة الاحتلال الإسرائيلي تكتفي بإدارة الصراع مع الفلسطينيين، بل أطلقت العنان لتنفيذ مشروع التهجير والتطهير العرقي الممنهج تستهدف اقتلاع الوجود الفلسطيني من جذوره، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية.

ومع هذا التحول الخطير، الذي يهدد بإعادة تشكيل الجغرافيا السكانية والسياسية للمنطقة، وقفت مصر والأردن—رغم كل الاعتراضات الرسمية—موقفًا أقرب إلى التواطؤ الفعلي منه إلى التصدي الجاد.

ورغم أن القاهرة وعمّان تدركان تمامًا أن استراتيجيات إسرائيل التهجيرية تمسّ جوهر أمنهما القومي، إلا أن تعاملهما مع هذه السياسات اتسم بازدواجية خطيرة: تصريحات إعلامية وتحذيرات دبلوماسية في العلن، مقابل دعم غير مباشر، أو في أحسن الأحوال، صمت فعلي على الأرض، يسمح لإسرائيل بالمضي في جرائمها دون كلفة إقليمية حقيقية.

إعادة هندسة الوجود الفلسطيني

لسنوات طويلة، اعتمدت دولة الاحتلال على استراتيجية “إدارة الصراع” في تعاملها مع الأراضي الفلسطينية المحتلة.

هدف هذه السياسة لم يكن الحل، بل ضمان الهدوء النسبي والاستقرار الأمني دون تقديم تنازلات سياسية.

كانت السلطة الفلسطينية أداة مركزية في هذا النهج، إلى جانب أدوات السيطرة العسكرية والاقتصادية، التي سعت إلى إبقاء الفلسطينيين تحت السيطرة دون اللجوء إلى الحسم.

لكن ما بعد 7 أكتوبر 2023 شكّل نقطة تحوّل مفصلية. الانتقال إلى سياسة التطهير العرقي بدا متسارعًا ومنهجيًا.

في غزة، تجاوزت دولة الاحتلال حدود “الردع” إلى “الإبادة”، حيث دمرت بنية الحياة بالكامل وقتلت عشرات الآلاف، وتتبنى علنًا الآن سياسة “النقل الطوعي” للسكان عبر التهجير القسري.

وفي الضفة الغربية، يتم تطبيق “الخطة الحاسمة” التي روّج لها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وتقضي بواحدة من ثلاث: الخضوع، الهجرة، أو الإبادة. هكذا تتحول الضفة الغربية إلى ساحة تنفيذ مباشر لمخطط الضم والتهجير.

تهديدات وجودية… وردود هزيلة

من منظور استراتيجي، لا يمكن التقليل من حجم التهديد الذي تمثله هذه السياسات على الأردن ومصر.

في الأردن، يُنظر إلى أي تحرك لتهجير الفلسطينيين من الضفة باعتباره تهديدًا وجوديًا، يعيد إحياء سيناريو “الوطن البديل”، ويهدد بانهيار التوازن الديمغرافي الهش، ويضغط على بنية تحتية واقتصاد هش أصلًا.

أما مصر، فإن تهجير سكان غزة إلى سيناء يعني انفجارًا أمنيًا محتملًا في منطقة لا تزال تنزف من تداعيات التمرد المسلح. إلى جانب ذلك، يُشكل التهجير خطرًا سياسيًا بالغًا في الداخل، حيث ترفض الغالبية الساحقة من المصريين هذا السيناريو رفضًا قاطعًا.

لكن، ورغم خطورة هذه التهديدات، فإن ما تقوم به الحكومتان لا يرتقي لمستوى التحدي. تصريحات دبلوماسية متكررة ورفض رسمي لأي تهجير، لكن لا خطوات عملية حقيقية لردع دولة الاحتلال، لا على مستوى التنسيق الأمني، ولا عبر الضغوط الدولية، ولا حتى بوقف التعاون في ملفات حساسة مثل الطاقة أو المعابر أو التنسيق الاستخباراتي.

دعم غير مباشر بدلًا من المواجهة

بينما يطرح النظامان في مصر والأردن خطابًا معارضًا ظاهريًا، فإن سلوكهما الميداني يشي بالعكس.

مصر، على سبيل المثال، حافظت على تشغيل معبر رفح وفق إيقاع ينسجم مع متطلبات الحصار الإسرائيلي أكثر من كونه استجابة لاحتياجات غزة. رفضت رسميًا التهجير، لكنها لم تستخدم أوراق الضغط التي تملكها، مثل تعطيل التنسيق الأمني أو التهديد بإعادة النظر في اتفاقية السلام.

 

الأردن كذلك، رغم استدعائه لسفيره في تل أبيب، لم يتخذ أي إجراء عملي ضد استمرار الاستيطان أو تهجير الفلسطينيين من شمال الضفة. بل بقي التعاون الأمني في معظمه قائمًا، في وقت تتصاعد فيه وتيرة تهويد القدس وتفريغ مناطق واسعة من سكانها.

تحالفات تسقط في اختبار غزة

جزء من تردد القاهرة وعمّان يعود إلى إدراكهما لحساسية العلاقة مع الولايات المتحدة.

فإدارة ترامب العائدة، والتي تُعد الراعي الأول للعدوان الإسرائيلي، تجعل أي مواجهة مباشرة معها محفوفة بكلفة سياسية واقتصادية عالية. لذلك، آثرت الدولتان أن تتحركا داخل هامش المناورة المحدود: تأجيل الزيارات، إطلاق مبادرات إعادة إعمار، توجيه رسائل تحذيرية. لكن ذلك لا يوقف سياسة التهجير، بل يمنح إسرائيل مزيدًا من الوقت والشرعية.

التحالف العربي الرسمي، الذي كان من المفترض أن يشكل جبهة ضد التهجير، سقط هو الآخر في اختبار غزة. لم يتم اتخاذ أي موقف جماعي رادع، ولا عقوبات سياسية أو اقتصادية، ولا حتى تنسيق إعلامي حقيقي لكشف الجرائم الإسرائيلية.

بل ظهرت مصر والأردن بموقفين منفصلين، أقرب إلى إدارة أزمة داخلية منه إلى مواجهة مشروع استعماري يستهدف المنطقة كلها.

نحو تواطؤ كامل؟

الوضع الحالي لا يمكن تفسيره فقط بالخوف أو الحذر. إن امتناع مصر والأردن عن اتخاذ خطوات فعلية لوقف جرائم التهجير الإسرائيلي، وتغاضيهما عن السياسات التوسعية والعدوانية الجارية، يرقى إلى مستوى التواطؤ السياسي، حتى وإن كان غير مباشر.

فكلا النظامين يضع الحفاظ على علاقته بإسرائيل والولايات المتحدة فوق مصلحة فلسطين، بل فوق مصلحة أمنه القومي نفسه.

من جهتها فإن دولة الاحتلال تقرأ هذا التواطؤ جيدًا، وتبني عليه. فغياب ردع إقليمي فعلي يشجعها على التمادي، ويمنحها هامش المناورة لمواصلة مشروعها القائم على التدمير والاقتلاع. أما مصر والأردن، فإن استمرارهما بهذا النهج يعني شيئًا واحدًا: إنهما يتأقلمان تدريجيًا مع نهاية فلسطين، ويهيئان نفسيهما والعالم لما بعد التهجير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى