السلطة وملاحقة المقاومة: تنسيق أمني أم عربون ولاء في زمن حرب الإبادة؟

في مشهد عبثي يختلط فيه العار بالخيانة، تتصاعد وتيرة التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وجيش الاحتلال الإسرائيلي في زمن حرب إبادة إسرائيلية شاملة ضد الفلسطينيين في غزة، وتواصل عمليات القتل الممنهج والتهجير القسري في مدن وقرى الضفة.
وبينما يُتوقع من قيادة السلطة أن تتماهى مع نبض الشارع المنتفض ضد الاحتلال، فإن السلطة تواصل انتهاج سياسة مطاردة المقاومة، وكأنها تنفّذ تعليمات الاحتلال بالحرف.
آخر فصول هذا التنسيق جاء من نابلس، حيث أعلن جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة عن اعتقال خلية مقاومة مكوّنة من ثلاثة شبان، وصادر منها أسلحة وعبوات ناسفة محلية الصنع، كانت معدّة لاستخدامها في التصدي لاجتياحات قوات الاحتلال المتكررة.
ولم تكتف السلطة بذلك، بل نشرت صورًا ومقاطع فيديو توثق ما وصفته بـ”الإنجاز الأمني”، في خطوة تعكس التباهي العلني بخدمة الأجندة الإسرائيلية.
أمن السلطة.. ذراع موازٍ للاحتلال
ليس من المبالغة القول إن أجهزة أمن السلطة تمارس في الضفة الغربية دورًا لا يقل قسوة عن الاحتلال ذاته.
فالاعتقالات والملاحقات والتعذيب لم تعد تستهدف “الخصوم السياسيين” فقط، بل طالت المقاومين الذين يحملون أرواحهم على أكفهم دفاعًا عن مدنهم ومخيماتهم.
وفي حادثة مماثلة اختطفت أجهزة السلطة ستة من المطاردين للاحتلال في كمين نصب لهم بين بلدتي الزبابدة ومسلية جنوب جنين، وصادرت أسلحة وذخائر كانت مخصصة لصد الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة.
بيان السلطة لم يترك مجالًا للشك: لقد تم توقيف المطاردين الستة و”إحباط” مخططهم، بل وُصفوا في لغة البيان بأنهم “خارجون عن القانون”، في حين أن الاحتلال ذاته يعتبرهم “أهدافًا أمنية” ويشنّ عليهم حملات تصفية علنية.
هذه الممارسات الأمنية القمعية، في توقيتها ودلالاتها، تتجاوز حدود “سوء التقدير” أو “تضارب الأولويات”، لتكشف عن تحول خطير في وظيفة السلطة الفلسطينية، التي باتت تقدم نفسها كحاجز أمام تمدد المقاومة المسلحة، حتى لو كان ذلك على حساب كرامة الشعب وحقوقه الأساسية.
عربون محبة.. من أجل تحويل أموال المقاصة؟
في ظل الأزمة المالية الخانقة التي تعاني منها السلطة، لا يبدو هذا التصعيد الأمني منفصلًا عن الضغوط الإسرائيلية والأمريكية لإجبارها على إثبات التزامها بالتنسيق الأمني، مقابل وعود بإعادة تحويل أموال المقاصة أو منحها تسهيلات اقتصادية.
فكلما اشتدت قبضة الاحتلال على رقبة السلطة، ازدادت الأخيرة في تقديم فروض الطاعة، لا عبر التصريحات فحسب، بل بمداهمات ليلية واعتقالات سياسية ومطاردة للمسلحين.
وقد لخّص الكاتب المختص في شؤون الضفة، ياسين عز الدين، هذه المفارقة المأساوية عندما غرّد: “كلما ضيّق الاحتلال على السلطة، سارعت إلى إثبات ولائها له. هذه ممارسات تحصل في وقت يصل فيه إجرام الاحتلال ذروته في كل من الضفة وغزة. هذه السلطة تقود شعبنا إلى الهاوية.”
وحديث عز الدين لا يأتي من فراغ، إذ تشير مصادر حقوقية إلى أن أجهزة السلطة تحتجز أكثر من 40 مقاومًا من كتيبة جنين في ظروف اعتقال سيئة، حيث يتعرضون للتعذيب والحرمان من الزيارة. وهي حالات تؤكد أن الهدف لم يعد ضبط الأمن الداخلي، بل تصفية الحساب مع مشروع المقاومة ذاته.
مقاومة مغدورة.. من رام الله لا من تل أبيب
في هذا التوقيت العصيب، حيث يتعرض الشعب الفلسطيني لأسوأ عدوان في تاريخه، تتصرف السلطة كأنها جزء من منظومة الأمن الإسرائيلي، لا كقيادة وطنية لشعب تحت الاحتلال.
فهي لا تكتفي بالصمت عن الجرائم، بل تلاحق من يقرر أن يحمل السلاح في وجه الاحتلال. وكأن الدم الفلسطيني المسفوك في غزة ورفح وخان يونس لا يعنيها، ما دامت قواتها تواصل مطاردة المقاومين في مخيم جنين أو مدينة نابلس.
في ظل هذا الواقع، يصبح من المشروع التساؤل: هل ما زالت السلطة تمثّل تطلعات الفلسطينيين؟ أم أنها باتت أداة لضبطهم وتفريغهم من أي فعل مقاوم؟ وهل ما زالت القيادات المتنفذة تؤمن أن المشروع الوطني يُصان عبر “التنسيق الأمني” أم أن الأمر بات انغماسًا في علاقة تبعية كاملة مع الاحتلال؟
السلطة: من تمثيل الشعب إلى حماية الاحتلال
ما يجري اليوم هو انقلاب على مفهوم “السلطة الوطنية” الذي تشكّل بعد اتفاق أوسلو.
فبدل أن تكون هيئة تمهّد لقيام دولة فلسطينية مستقلة، أصبحت “وكيل أمن ميداني” يمنع تشكّل بيئة مقاومة ضد الاحتلال.
ولا يختلف اثنان على أن أجهزة السلطة لا تجرؤ على التصدي لاجتياحات جيش الاحتلال، لكنها تبادر فورًا إلى ملاحقة الشباب الذين ينوون الرد على تلك الاجتياحات.
ما أشبه اليوم بالأمس، حين كانت مجموعات الأمن الوقائي في الانتفاضة الثانية تستهدف خلايا المقاومة في مهدها، بينما كانت الدبابات الإسرائيلية تجتاح المدن وتعيد احتلالها.
السلطة إلى أين؟
السلطة الفلسطينية اليوم أمام مفترق طرق. فإما أن تختار الاصطفاف مع شعبها، وتتوقف عن التنسيق الأمني وملاحقة المقاومين، أو أن تتحول رسميًا إلى ذراع وظيفي لحماية الأمن الإسرائيلي، وتفقد كل شرعية وطنية بقيت لها. وفي كلا الحالتين، فإن الشارع الفلسطيني قد بدأ يُدرك بوضوح من معه ومن عليه.
وفي زمن الحروب الكبرى والمجازر المفتوحة، لا مكان للمواقف الرمادية، ولا جدوى من البيانات الملتوية.
التاريخ يسجّل، والشعب لا ينسى. والرصاصة التي تطلقها أجهزة السلطة على مقاوم في جنين، لا تقل خطرًا عن صاروخ إسرائيلي يسقط على طفل في غزة.