عباس الفاقد للشرعية الانتخابية والوطنية يصعد حملته ضد المقاومة

منذ انتخابه في عام 2005، لم يخضع محمود عباس لأي استحقاق انتخابي جديد، ما يجعله في نظر الغالبية العظمى من قطاعات الشعب الفلسطيني وقواه ومكوناته المدنية رئيسًا فاقدًا للشرعية سواء الانتخابية أو الوطنية.
إذ أن مدة ولاية عباس الدستورية انتهت قبل أكثر من 15 عامًا، لكنه لا يزال يسيطر على مؤسسات السلطة الفلسطينية بقبضة أمنية وإدارية تستند إلى توافقات دولية وإسرائيلية أكثر مما تستند إلى تفويض شعبي.
ولا تقتصر أزمة شرعية عباس على الشق الانتخابي، بل تمتد إلى الشرعية الوطنية التي ترتكز على تمثيل تطلعات الشعب الفلسطيني وقيادة مشروعه التحرري.
فمنذ توليه السلطة، أدار ظهره لخيارات المقاومة، وعمل على تكريس الانقسام الفلسطيني، وفرض قبضة أمنية خانقة في الضفة الغربية ساهمت عمليًا في حماية المستوطنات الإسرائيلية ومنع تصاعد العمل الفدائي.
ويبرز مراقبون أن إصرار عباس على تجاهل مطالب الشارع بإجراء انتخابات شاملة، ورفضه إعادة بناء منظمة التحرير بطريقة تمثيلية، يعكسان رغبته في البقاء على رأس هرم السلطة بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة الصف الفلسطيني وحقوقه الوطنية. وهذا ما يجعل قراراته – بما فيها تلك المتعلقة بالمخيمات الفلسطينية في لبنان – محل ريبة ورفض واسعَين.
حماية الاحتلال لا مقاومته
منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، لم تكن العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي متكافئة، لكن ما فعله عباس هو تحويل هذه العلاقة المختلة إلى سياسة ممنهجة تُعرف بـ”التنسيق الأمني”، حيث تعمل أجهزة السلطة على إحباط العمليات الفدائية، وتلاحق المقاومين في الضفة، في ظل تفاهمات أمنية مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
عباس لم يكتفِ بتعطيل الانتفاضة الثالثة التي كانت تلوح في الأفق بعد العدوانات الإسرائيلية المتكررة، بل شنّ حربًا أمنية وإعلامية ضد فصائل المقاومة، وتحديدًا حماس والجهاد الإسلامي، معتبرًا أي عمل مقاوم خارج مظلة السلطة “فوضى” يجب القضاء عليها.
وقد وصلت الأمور حدّ تصنيف كتائب المقاومة الفلسطينية كـ”خارجين عن القانون”، مع كل ما يحمله ذلك من ملاحقة وتصفية وتنسيق أمني مع الاحتلال.
في كل مرة تعلو فيها أصوات تطالب بالرد على جرائم الاحتلال، يختبئ عباس خلف خطاب الواقعية السياسية وضرورة الحفاظ على “علاقات دولية متوازنة”، في تجاهل تام للواقع على الأرض الذي يُظهر انهيار كل رهان على مفاوضات التسوية. هذا الخطاب لم يحمِ الأرض ولا الإنسان، بل كرّس الاحتلال كأمر واقع، وجعل من أجهزة الأمن الفلسطينية ذراعًا رديفة للمنظومة الإسرائيلية.
وهذا البرنامج الذي يُنفذ في الضفة بكل دقة، هو ما يحاول عباس تصديره إلى الساحة اللبنانية، في محاولة لتفكيك البنى المقاومة في الشتات أيضًا، في انسجام تام مع الضغوط الأمريكية والإسرائيلية.
نقل تجربة الضفة إلى لبنان لإرضاء الاحتلال
زيارة عباس الأخيرة إلى لبنان كشفت بوضوح رغبته في تصدير نموذج التنسيق الأمني إلى المخيمات الفلسطينية هناك. فالاتفاق الذي أبرمه مع السلطات اللبنانية على “تسليم السلاح” و”ضبط الفصائل” يعكس محاولة مريبة لنزع البعد التحرري عن المخيمات، وتحويلها إلى نسخ جديدة من مناطق A وB في الضفة الغربية.
ما يجعل هذا التحرك خطيرًا، هو أنه يأتي في سياق إقليمي مضطرب، حيث يتعرض لبنان لضغوط أمريكية وإسرائيلية متزايدة لنزع سلاح الجماعات المسلحة، وعلى رأسها حزب الله، وهو ما يعني أن عباس لا يتحرك من منطلقات فلسطينية خالصة، بل بوصفه شريكًا في معادلة أمنية إقليمية هدفها تفكيك قوى المقاومة.
وفق تقارير إعلامية لبنانية، فإن عباس وافق صراحة خلال زيارته على آلية لنزع سلاح الفصائل، تبدأ في بيروت وتمتد لاحقًا إلى الشمال والبقاع والجنوب. ولم يكن هذا الموقف جديدًا، بل يأتي ضمن سلسلة من محاولات سابقة لإضعاف النفوذ الفلسطيني المقاوم في الشتات، عبر تفكيك المخيمات أمنيًا وإعلاميًا، ووصمها بالعنف والفوضى.
لكن المخيمات الفلسطينية في لبنان ليست مجرد تجمعات بشرية. إنها شاهد تاريخي على النكبة، وموقع نضالي استثنائي حافظ على جذوة المقاومة لعقود. ولا يمكن التعامل معها كمنطقة خارجة عن القانون، ولا فرض النموذج البوليسي عليها بدعوى ضبط الأمن.
فالفلسطينيون في لبنان يعيشون في ظروف تهميش شديدة، محرومون من الحقوق المدنية، ووجود الفصائل – رغم كل ما يعتريه من إشكالات – كان دائمًا عاملًا من عوامل الحماية والتمثيل السياسي.
وعوضًا عن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في لبنان، اختار عباس الاصطفاف مع الضغوط الأمريكية، وتقديم أوراق اعتماد جديدة لواشنطن وتل أبيب على حساب المقاومة. وهو بذلك لا يضعف المخيمات فقط، بل يقوض جوهر القضية الفلسطينية كقضية تحرر لا تُختزل في “سلطة” منزوعة السيادة.
عباس رأس مشروع مضاد للتحرر
التحركات الأخيرة لعباس تؤكد أن الرجل لم يعد يرى نفسه ممثلًا للفلسطينيين بقدر ما أصبح أداة في يد مشروع إقليمي يسعى إلى تفكيك المقاومة وتطويع الشتات. مشروعه لا يتعامل مع الاحتلال كعدو، بل كشريك ينبغي طمأنته، بينما تُشيطن المقاومة وتُجرد من شرعيتها.
في ظل هذا الواقع، فإن رفض الشارع الفلسطيني، داخل الوطن والشتات، لتحركات عباس لا يعكس مجرد خلاف سياسي، بل هو تمسك بجوهر القضية ومشروعها الوطني. أما محاولات نزع سلاح الفصائل في لبنان، فلن تؤدي سوى إلى تفكيك آخر قلاع الصمود، وإعادة إنتاج تجربة أوسلو على أرض الشتات.
عباس، الفاقد للشرعية، لا يملك تفويضًا لتصفية المقاومة، ولا حقًا في تسليم السلاح الذي لم يكن يومًا ملكًا له. ومهما علا صوته في قاعات المؤتمرات، فإن صوت المقاومة في المخيمات، وعلى أرض غزة والضفة، سيظل الأعلى.